الحق.. الخصخصة!!
مع جمود الحياة السياسية والحزبية في مصر تحولت الكيانات الحزبية إلى كيانات كارتونية تتجنب النطق ولو بكلمة واحدة حول ما يدور في الحياة العامة المصرية، خوفًا من أن تصنف كمناوئة للسلطة، أو نفاقًا لها، ولقد كان ما رأينا إبان تمرير اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية خير مثال لذلك، حيث امتنعت الأحزاب الممثلة في البرلمان عن اتخاذ موقف منها، ونال الحزب الوحيد الذي أعلن صراحة وقوفه ضد الاتفاقية وهو حزب المصريين الأحرار فكان جزاؤه على ذلك فقد تم تفجيره من الداخل، ليكون مثالا شاهدًا يذكر كل من يظن أن الأحزاب كيانات سياسية حقيقية يسمح لها بالتعبير عن آراء سياسية غير دعم السلطة.
وكان من ضمن النتائج السلبية لذلك هو خوف الناشطين السياسيين من الجهر بانتماءاتهم السياسية والأيديولوجية وبحثهم عن أماكن أخرى للتخفي بداخلها واستخدامها للوصول للصحافة والإعلام لترويج تلك الأفكار، وليس هذا بغريب على الحياة السياسية في مصر، فقد ظل تنظيم الإخوان عشرات السنين يستخدم الجمعيات الأهلية ثم النقابات كأذرع تنفيذية لأنشطة التنظيم في ظل منعه من ممارسة النشاط السياسي، وقد مكنته تلك الجمعيات والنقابات من الحفاظ على القوة التنظيمية، وضم المزيد من الأعضاء والأهم كسب المزيد من المؤيدين.
وتستمر العجلة في الدوران فبعد حل جماعة الإخوان والقبض على الكثير من أعضائها ونزوح من لم يقبض عليه من قياداتها إلى الخارج صارت الساحة خاوية وممهدة لتنظيمات أخرى لتكرار نفس التجربة، استغلت تلك التنظيمات قدرتها على حشد منتسبيها وخبرات بعض قادتها، والتي تمتد إلى عشرات السنين في السيطرة على بعض النقابات واستغلالها للتعبير عن فكر وانتماء تلك التنظيمات.
ولنأخذ نقابة الأطباء كمثال، حيث يسيطر عليها الآن ما يسمى تنظيم "أطباء بلا حقوق" الذي لا يعلن له أي توجه سياسي لكنه يعلن في كل مناسبة أنه يدعو للحفاظ على المجانية.. مجانية الصحة والتعليم الطبي وملكية الدولة لمؤسسات الخدمة الصحية تلك الشعارات الزائفة التي دمرت مصر عبر عشرات السنين، وأفقدت مصر أجيالا من حملة الشهادات العليا، نتاج نظام تعليمي لم يركز على تغيير الشخصية، والتثقيف وإكساب القدرة على التقييم والاختيار الصحيح، وإنما تخريج أكبر أعداد ممكنة في مجالات لا يوجد لها فرص في سوق العمل مما أسهم في انتشار الجهل والبطالة وإهدار كل ما أنفق من مال عام كان من الممكن أن يستخدم في إيجاد تعليم جيد بعيدًا عن المزايدات السياسية.
وصارت مصالح أعضاء النقابة مهددة، حيث تتعارض تلك المصالح بشدة مع مع تلك الأيديولوجية، فالأطباء يعانون من التدنى الشديد في أجورهم، حيث اعتادت الحكومات المتعاقبة على خفض الاحتياجات المالية للإنفاق على الصحة والخدمات بصفة عامة عن طريق خفض أجور العاملين في تلك القطاعات حتى صارت الخدمات وكأنها تقدم على نفقة العاملين عليها!!!
ويعني استمرار الدعوة إلى المجانية وعدم الاهتمام بتغطية التكلفة الحقيقية تضييعًا مؤكدًا لحقوق هؤلاء الأطباء، وبدت الصورة واضحة لكل محايد موضوعي أن هؤلاء يقدمون استخدام النقابة للتعبير عن أفكارهم السياسية على المطالبة بحقوق أصحاب النقابة الذين يئنون من ضياع حقوقهم المادية والمعنوية، ثم تأتى المطالبات ذات المرجعية الشيوعية بملكية الدولة لكل المؤسسات المقدمة للخدمة الصحية، ونشر الشائعات حول وجود "نيات" لبيع تلك المؤسسات بعد التخلص من العاملين فيها، وتسأل عن الأسباب الموضوعية لتلك الادعاءات فتسمع كلاما مثل "إننا نعرفهم"، و"هذا توجه واضح"، و"لهم سوابق كثيرة".
وصارت البيانات التي كان من المفترض أن تخرج من الأحزاب التي تعبر عن تيار اليسار تصدر عن نقابة الأطباء، تلك البيانات التي تتجنب الحديث عن مطالب الأطباء عن أجورهم، وظروف عملهم، وتوافر الأمان، والاحتياجات الأساسية المطلوبة لتقديم خدمة طبية آمنة، وتركز على التخويف من تلك الادعاءات ببيع الملكية العامة والتخلص من العاملين فيها!
وكان الأغرب هو صدور نفس الكلام تقريبا كرد على موضوعات مختلفة تمام الاختلاف، وكأنها ردود معدة سلفًا أو أسطوانات سابقة التجهيز تدور بمجرد ظهور أي طرح، وقد رأينا ذلك في الردود على قوانين التأمين الصحى، وتنظيم المستشفيات الجامعية، وغيرهما وكأن الغرض منها نشر هذا الفكر أكثر منه مناقشة موضوعية للطرح نفسه، والدعوة توجه لأشخاص بعينهم معروفة توجهاتهم أو آراؤهم المتناغمة مع الطرح لتجميل الصورة والادعاء بأن هذا هو رأي الأطباء.
وحتى يتم الحفاظ على ذلك المنبر الذي يمكن بسهولة من الوصول للصحافة والإعلام لنشر تلك الأفكار تتم محاولة تخويف للأطباء سواء تخويف لكل من يبدي رأيا عن طريق إطلاق بعض الشباب الموتور لمهاجمته، واتهامه بأسوأ الاتهامات دون أي دليل، وجعله عبرة لكل من يتجرأ على التعبير عن رأى مختلف عن الرأى المطلوب تسويقه، وتطور الأمر إلى العمل على منع المشاركة، فكل من تسول له نفسه الترشح في الانتخابات يعرف سلفًا ما سيناله من مجموعات جاهزة للخوض في الشرف والعرض، واستخدام كل الطرق اللا أخلاقية بل الطائفية لإغلاق باب احتمالية وجود منافسة قد تهدد استمرار السيطرة على هذا المنبر، الذي لن يكون له بديل مع جمود الحياة السياسية، والتوقف التام للأنشطة الحزبية في مصر.
ستسمعون كثيرًا عن الخصخصة رغم أن الدستور المصري ينص في مادته الثامنة عشرة على: "وتشجع الدولة الاستثمار الأهلي والخاص في قطاع الصحة"، وبيع الممتلكات العامة رغم أن الدستور ينص في مادته الرابعة والثلاثين على: "الملكية العامة حرمة لا يجوز المساس بها"، وقد يتحجج البعض بالمخالفات الدستورية التي ارتكبت في الأعوام الماضية، ولكن الرد أنه إذا لم يكن هناك احترام للدستور والقانون فبماذا يفيد الكلام؟ علينا أن نكون حذرين مما يتم تسويقه، وأن نجتهد لبحث كل ما يطرح بموضوعية دون التأثر بمحاولات التشويش التي تهدف لتجميع الأنصار، ونشر الفكر، ولو على حساب أصحاب المصلحة.