حكمان للقضاء الإداري يحتاجهما المشرع لإنهاء صداع الفتاوى الشاذة
أثارت بعض الفتاوى الشاذة في الآونة الأخيرة لغطًا كبيرًا، ولوضع حد لها وُضعت قائمة أعلنها المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بشأن العلماء الشرعيين المرشحين من كل من الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف المصرح لهم بالفتوى عبر وسائل الإعلام، فيما غضب بين العلماء المستبعدين من تلك القوائم، وهو ما يستلزم تدخل تشريعى عاجل، الأمر الذي لم تتركه أحكام القضاء الإداري التي حسمته في حكمين سابقين لها يعدان سندا في مناقشة أمر تجديد الخطاب الديني برمته.
محكمة القضاء الإدارى بالإسكندرية أرست برئاسة المستشار الدكتور عبد الوهاب خفاجي حكمين بتأييد قرارين لوزير الأوقاف الأول في الدعوى رقم 4019 لسنة 15 ق بجلسة 27 أبريل 2014 والثانى في الدعوى رقم 2940 لسنة 11 ق بجلسة 26 يناير 2015 أحدهما أيد صحة قرار الوزير بمنع تصريح الخطابة لأحد المنتمين للتيارات المتشددة والآخر لضم الزوايا تحت إشراف الأوقاف، وأكدت فيهما على أن الدعوة الإسلامية ملهمة لتطهير الروح والعقل والنفس والوجدان ضد التكفير والتعصب المذهبى والطائفى والعنف الدموى، وأن المشرع الوضعى لم يضع تعريفًا للمجتهد، وأن هناك فراغًا تشريعيًا وليس شرعيًا بشأن إيجاد تنظيم تشريعى متكامل لعملية الإفتاء وهذا دور القاضي الإدارى باعتباره قائم على تطبيق النصوص.
وقالت المحكمة: إن هناك فراغًا تشريعيًا – وليس شرعيًا – بشأن إيجاد تنظيم تشريعى متكامل لعملية الإفتاء وهو ما يسبب مشكلات جمة – باستثناء ما تقوم به دار الإفتاء المصرية – فظل الإفتاء ليس حكرًا على أحد؛ فكل مسلم بلغ في علوم الشريعة الإسلامية مبلغ التخصص وتوافرت في حقه أهلية الاجتهاد من حقه الفتوى والأمر يحتاج إلى تنظيم تشريعى بقواعد عامة مجردة، أما من يتصدى للفتوى من غير المتخصصين أو ممن ينقصهم إتقان التخصص فإنه ليس بأهل للفتوى ولا يجوز له ذلك.
واستطردت المحكمة: إلا أن علماء الأمة قديمًا وحديثًا تواترت آراؤهم على وجوب توافر مواصفات محددة في المجتهد الذي يجوز له أن يفتي للناس، ونهى غير المتخصصين عن التجرؤ على الاجتهاد والإفتاء بدون علم، لما يترتب على ذلك من مآس دينية ودنيوية أو الإساءة إلى الإسلام وتشويه صورة المسلمين، وتأسيًا بمسلك كبار الفقهاء الأوائل الذين أسسوا مدارس فقهية لها مناهجها العلمية فكانوا يتحرجون من الفتوى على عكس الحاصل الاَن من تجرؤ غير المتخصصين الذين يجب عليهم الابتعاد عن دائرة الاجتهاد، حتى لا يصعب الأمر على المتلقي في اختيار من يتلقى منه الفتاوى.
وعن العلماء الثقات وتفضيل الاجتهاد الجماعى على الاجتهاد الفردى في المسائل الخلافية قالت المحكمة: "يجب أن يقتصر الإفتاء على العلماء الثقات الذين يجيدون الغوص في بحر الاجتهاد المتلاطمة أمواجه القادرين على استنباط الحكم الشرعى المؤسس على فقه سليم، وبُحت أصواتهم عن مدى حاجة المسلمين إلى إفتاء سليم يربط بين العقيدة الصحيحة ومستجدات العصر في ظل الثورة العلمية التكنولوجية وما أفرزته من قضايا مستجدة، وأنه عندما تقدمت العلوم وتنوعت التخصصات فإن المسألة التي تتعدد فيها وجهات النظر وتختلف فيها الرؤى تكون بحاجة إلى نظر جماعى ، أي الاجتهاد الجماعي لا الاجتهاد الفردي، تأسيسًا على أن المسألة الواحدة التي تنازعتها فتويان فإن الأمر يقتضى ترجيح واختيار الفتوى الأصوب والأرجح.
وأردفت: أن المسائل الخلافية التي تتعدد فيها آراء العلماء لا يجوز أن ينفرد بالإفتاء فيها فقيه واحد، فيكون الاجتهاد الجماعى هو السبيل الوحيد للإفتاء فيها للعامة لترجيح واختيار الفتوى الأصوب والأرجح، فليس كل ما يعلم بين العلماء المتخصصين يقال للعامة وإلا أحدثوا فتنة وإثارة للبلبلة وعدم استقرار المجتمع الدينى.
وعن وجوب أن يكون باب الاجتهاد مفتوحا وأضافت المحكمة، أنه بات من الأصول العامة الخالدة أن طبيعة الشريعة الإسلامية تقتضى أن يظل باب الاجتهاد فيها مفتوحا لا يوصد بحسبان أنها الشريعة الخاتمة لجميع البشر وبمراعاة أنها صالحة لكل زمان ومكان لكونها منظمة لعلاقات الناس ومعاملاتهم في شتى مناحى الحياة وعلاقتهم جميعا بالخالق لذلك فكان لزاما أن تحمل خاصية بيان الأحكام الشرعية لكافة مستجدات الحياة في جميع جوانبها، وهكذا تظل حاجة اتباعها إلى الاجتهاد قائمة باستمرار لتساير مستجدات العصر فيصبح الخطاب الدينى متجددا يافعا معبرا عن كل بيئة مهما اختلفت الأوطان.
دعت المحكمة المشرع إلى إيجاد تنظيم تشريعى عاجل لعملية الإفتاء لتلافى الآثار السيئة وإحداث البلبلة في نفوس العامة وأناطت بعلماء الأوقاف والأزهر الشريف بتجديد الثقافة الإسلامية وتجريدها من آثار التعصب الدينى الناجم عنه الانحراف في الفكر المذهبى والسياسي، وأن الإسلام لم يعرف ما يسمى بالفريضة الغائبة في تكفير المسلم وقتل البشر باسم الدين.
وعن شروط الافتاء في الفقه الإسلامى قالت المحكمة: "إنها بالأمر اليسير في الفقه الإسلامي حتى يمارسه العوام وإنما هو أمر بالغ الصعوبة والدقة يستفرغ فيه المجتهد وسعه لتحصيل حكم شرعى يقتدر به على استخراج الأحكام الشرعية من مآخذها واستنباطها من أدلتها على نحو يشترط في المجتهد شروطًا للصحة أهمها أن يكون عارفا بكتاب الله ومعانى الآيات والعلم بمفرداتها وفهم قواعد اللغة العربية وكيفية دلالة الألفاظ وحكم خواص اللفظ من عموم وخصوص وحقيقة ومجاز وإطلاق ومعرفة أصول الفقه كالعام والخاص والمطلق والمقيد والنص والظاهر والمجمل والمبين والمنطوق والمفهوم والمحكم والمتشابه وهى مسائل دقيقة للغاية تغم على عموم الناس من أدعياء الدين وطالبي الشهرة ومثيري الفتنة والدين منهم براء، وهى في الحق تستلزم التأهيل في علوم الدين، مما تناشد معه المحكمة المشرع بضرورة تجريم الإفتاء من غير أهله المتخصصين بدار الإفتاء التي تخاطب كل مسلم في العالم وليس مصر فحسب.
وأهابت المحكمة بالمشرع، بصدد قانون ممارسة الخطابة بتجريم استخدام منابر المساجد والزوايا لتحقيق أهداف سياسية أو حزبية أو للدعاية الانتخابية حتى ولو كان مرخصا له بالخطابة، وهو الأمر الذي خلا منه قرار رئيس الجمهورية المؤقت رقم 51 لسنة 2014 بشأن ممارسة الخطابة والدروس الدينية في المساجد وما في حكمها، لأن استخدام الخطيب للمنبر في غير أهداف الخطابة والانحراف بها في أتون السياسة سعيا لتأييد طرف ضد آخر، يجعله قد خالف شروطها، والقاعدة الفقهية تقرر أن المسلمين عند شروطهم، خاصة في ظل الظروف العاتية التي تواجه العالم لمحاربة الإرهاب ودعاة الفكر الشيطانى التكفيرى، وتبذل فيه مصر وحدها بحكم ريادتها للعالم الإسلامى غاية جهدها لمواجهة هذا الإرهاب للحفاظ على كيان المجتمع واستقراره ورعاية المصالح العليا للأمة.
واستكملت، "أن المقرر شرعا أن الاجتهاد أمر ثابت في الشريعة الإسلامية بل يعد أحد مصادرها، كما تعتبر المذاهب الفقهية نتاج هذا المصدر، واختلاف فتاوى الفقهاء في المسألة الواحدة يعد أبرز شكل من أشكال الاجتهاد، وبمراعاة أن نطاق هذا الاختلاف يقتصر على الفروع فقط دون ثوابت الشرع الإسلامي المقررة بأدلة قطعية والتي تشمل الأصول والمبادئ أو الاعتقاد، ويعد الاختلاف بين المذاهب الفقهية رحمة ويسرا باتباع الدين الإسلامي، وفي ذات الوقت ثروة تشريعية كبرى محل اعتزاز وفخار الحضارة الإسلامية.