الأمير في عش الدبابير
في بادئ الأمر ظن البعض أن مشكلة عائلية قد طفت فوق السطح السعودي، غير أن الوقائع المتتالية أثبتت أن هذا التصور النمطي قد طال عواصم عربية كثيرة، ولايزال يتمدد ليصل إلى حدود تغيير الخارطة السياسية في المنطقة العربية، فالمملكة دولة كبيرة في تأثيرها الذي يتخطى الحد الإقليمي إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، وانشغلت الآلة الإعلامية بأسماء الكبار الموقوفين، خاصة وأن هناك أسماء ظلت لعقود ملء السمع والبصر.
لم ينتبه أحد إلى ما هو أعمق، حيث طغت الأسماء الكبرى على المعنى الأكثر حيوية وتأثيرا، فالموقوفون الكبار ربما كانوا في دائرة تغيير الحكم في الفترة المقبلة، أما الأسماء الأخرى الأكثر عمقًا وتأثيرًا، فقد كانت لنية الأمير الشاب محمد بن سلمان ولي العهد في تفكيك آلة التشدد الديني التي بنيت لسنوات طويلة، وبأموال وفيرة، وأثرت على ملامح الدين الإسلامي ليس في السعودية وحدها، وإنما طالت عواصم أخرى في محيطها وغيره، وكانت مصر في القلب من هذا التغيير الرهيب.
تفكيك آلة التشدد والجمود والتخلف بمثابة من يحاول فك طلاسم ألغام الحرب العالمية في صحارى مصر، فالذين زرعوها لم يمنحونا خرائطها، وتركونا نعيش المأساة وحدنا.. أيضا يحاول الأمير الشاب الدخول بقوة إلى طلاسم وغياهب التطرف الذي نشب أظافره في كل أنحاء المجتمع السعودي، وطال مصر وعواصم عربية أخرى، لذا فمن غير المنطقي ألا نراقب حالة القلق التي تسيطر على السلفيين في مصر، وهم النبت السعودي الوهابي الأخطر علينا من كل ألوان التطرف.
السلفيون الآن في وضع يحسدون عليه، خاصة وأن الأمير الشاب يسعى بجد في هذا الملف، ليقدم نفسه إلى العالم بشكل يليق بحجم الدعم الذي يسعى إليه من الغرب وأمريكا، وربما يكون هذا هو مهر السلطة الذي يقدم به نفسه إلى الآخرين، وهو أمر يستحق التشجيع، ويفرض علينا أن نسهم فيه بحصار فلولهم على أراضينا، خاصة أن هذا التطور من شأنه إيقاف آلة التمويل الرهيبة التي حظى بها السلفيون على مدى عقود طويلة.
إن تفكيك آلة التطرف ومن ثم الانفتاح على الآخر، وتقديم نموذج جديد للتدين بات واضحَ المعالم، بعد أن قرر الأمير الشاب اقتحام هذا الملف بشجاعة نادرة، وصلت إلى إعدام كتب ظلت لسنوات طويلة مادة خصبة تسربت عبر مؤسسات رسمية، وكانت واحدة من أهم أدوات المملكة للعبور من خلال الحجيج والمعتمرين، بل وكانت رسائل تصل إلى الناس عبر مساجد تقام في كل بقاع الدنيا،عندما كانت الدنيا أرضا خصبة للمال السعودي.
نظرة واحدة إلى ما يحدث على الأرض يؤكد أن التخلي السعودي عن التشدد من شأنه أن يقضي على الكثير من حركات التطرف، التي وجدت لنفسها معينًا فكريًا من بلاد الحرمين وأئمة الحرمين، ومفكري الحرمين، وعلماء الحرمين، ومنظري الحرمين، وهو الأمر الذي نرى معه خطرا كبيرا على قائد هذه المرحلة، فكل من أراد تفكيك منظومة الإرهاب والتشدد والجمود، طالته نيران ما زرع الأجداد والآباء، بل إن بعضهم دفع حياته ثمنا للإصلاح.
قد يقول قائل إن «بن سلمان» يسعى لإرضاء الغرب، وقد يقول آخر إنه يسعى لتوطيد ملكه، وقد يقول فريق ثالث إن الظرف الدولي وحالة الفوضى التي تخطط للوصول إلى المملكة كلها أسباب قادت الأمير الشاب إلى ما يسعى إليه إلا أن الواقع الذي تعيشه المنطقة، يفرض على الجميع تفهم الأسباب التي أدت بنا إلى ما نحن عليه، وأولها أننا كنا ومازلنا كمنطقة أهم وقود للتطرف والإرهاب وتفخيخ العالم، بدءًا من منطقتنا ومرورا بعواصم أوروبية كثيرة.
سيل الأخبار المتدفق من وسائل إعلام عالمية يؤكد إيقاف رموز دينية كانت قبل قليل تستمد شرعيتها من نظام يرعاها، ومنع نشر كتب كانت رسائل رسمية من قبل، وعرض أمر السنة النبوية للتمحيص والتدقيق، وما أدخل عليها وما شابها من شوائب، كلها أمور إن صحت فإننا أمام رجل شجاع مهما كانت دوافعه، حيث يبقى الهدف الأسمى هو العنوان الأعرض الذي يفرض على المخلصين الوقوف في خندق الخلاص من رموز وأسباب التشدد الديني الذي اكتوت الإنسانية بنيرانه.