رئيس التحرير
عصام كامل

لماذا فقدنا الرسالة؟


في كل مجتمع متحضر هناك رسالة دائمة يتوجب على المجتمع أن يرسلها لأفراده ويبنى عليها ثقافته وهويته ودستوره وقوانينه. وتهدف نظم التعليم ووسائل الإعلام والصحافة بل والفن إلى ضمان بقاء تلك الرسالة، ووصولها ليس فقط إلى آذان المواطنين بل ترسيخها في عقولهم ووجدانهم. هذه الرسالة تحوى مجموعة من المبادئ الإنسانية التي اختارها كأسس دائمة وضامنة للحياة فيه.


كانت الحياة في مصر الحديثة تحاول اتخاذ تلك المبادئ أسسا لقطع الطريق إلى المدنية والتقدم وتسخر أجهزة الدولة وتضغط على المؤسسات غير الحكومية لاعتمادها ونشرها. 

كان أول تلك المبادئ "الجريمة لا تفيد"، معنى كان التعليم يؤكد عليه ويستخدم كل الطرق المنطقية والعلمية والدينية لترسيخه... كم كراسة يحملها طالب اليوم تحمل عبارة "من غشنا فليس منا"، وكم مجلة حائط في مدارس مصر مكتوب عليها هذه العبارة من الحديث الشريف؟، ولماذا توقف التعليم عن التأكيد على فكرة احترام القانون من علامات المرور وإشاراته إلى إعتماد الطرق القانونية في التظلم ورد الحقوق؟، وبعد ذلك كله نستغرب من انتشار البلطجة واعتماد الكثيرين على العنف في التعبير وتحقيق المصالح.

كيف فقدت الدولة أهم أزرعها في الإعلام والفن والتي كانت قديما تضع في قمة اهتماماتها تلك الرسالة، وترسم للمجتمع صورة المواطن القدوة والمواطن المثالى.. هل تذكرون أفلام حسين صدقى وأحمد سالم وفريد شوقى حتى نجيب الريحانى وإسماعيل ياسين، والتي مهما تغير تصنيفها الدرامى إلا أنها كانت دائما تحمل رسالة أخلاقية، وتؤكد على أن المجرم لا يمكن أن يفلت بجريمته، وأن الإلتزام بالأخلاق والقانون هو السبيل الوحيد للسعادة الدائمة.

أين ذهبت تلك الرسالة في إعلام اليوم وفى سينما اليوم؟

المرعب أننا لم نكتف بفقد رسالة الخير والصلاح بل إن انشغال الإعلام بالتعبير عن المواقف السياسية كأولوية قصوى وربما وحيدة أدى إلى نشر صور العنف وتأجيج نيران الكراهية بين الفئات السياسية المتصارعة، حتى صار كل فريق يتبارى في التبرير للعنف والجرائم التي يرتكبها فريقه، وتضخيم ما يرتكبه الفريق المنافس. 

وانصرفت السينما إلى استهداف الربح المادي وتقديم أسوأ الأمثلة من المجرمين ومحترفى أعمال البلطجة بل وتصويرهم بأنهم أبطال ولديهم من جوانب الخير ما يبرر ما يفعلون، حتى صارت تلك الشخصيات قدوة للشباب، وانتشرت مظاهر التشبه بها وبأفعالها بين الأجيال الصاعدة.

من المبادئ التي تقوم عليها المجتمعات المتحضرة وأهم محتويات تلك الرسالة الدائمة لمواطنيها هي العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.. وعدم التمييز بسبب الجنس أو اللون أو السن أو المعتقد، لكن ما حدث في النصف الثانى من القرن العشرين هو الإعتماد على التمييز الإيجابى بحجة الإنصاف، لكن الهدف الحقيقى هو جمع طوائف مؤيدة، وضمان هذا التأييد، فالدول المتحضرة تعمل على التثقيف وليس المحاصصة، وتجعل الكفاءة دائما هي معيار التفضيل.

بدأ التمييز الإيجابى للعمال والفلاحين وكلنا يتذكر نسبة الـ 50% التي وضعت في الدستور يوما وما، نتج عنها من تأثير على الحياة السياسية والبرلمانية في مصر، وكانت أهم أسلحة الحكم الشمولى في فرض السيطرة على الأمة. ثم تبع ذلك محاولة التمييز الإيجابي للشباب وللمرأة وما يحدث من تودد حاليا من سياسيين للطائفتين على حساب باقى طوائف الشعب.

ومن المبادئ التي كانت تحتويها الرسالة المصرية يوما كباقى الأمم المتحضرة أهمية العلم، والتأكيد على أن التعليم هو الوسيلة الوحيدة المضمونة للترقى في السلم الإجتماعى. وهذه الرسالة لم تكن مجرد كلمات تقال أو تكتب بل كانت تترجم إلى إجراءات وقوانين. كان النبوغ العلمى ضمانة أكيدة لعيش حياة كريمة ومن ذلك وضع أساتذة الجامعة الأدبى والمادى كرمز للعلم وعنوان لتلك الرسالة. وكان الحصول على وظائف الدولة يعتمد اعتمادا كليا على الكفاءة والعلم وكانت أجور تلك الوظائف تتناسب مع مقدار العلم والكفاءة والخبرة المطلوبة للوظيفة.

لم يكن هناك قصر للتعيينات على أبناء العاملين أو تباين في الرواتب بين وظائف ممولة من المال العام، بحيث يمكن للحاصل على شهادة متوسطة في وظيفة أن ينال راتبا أضعاف ما يحصل عليه من يحمل شهادة عليا، أو حتى دراسات عليا، ويشغل نفس الوظيفة في قطاع آخر من القطاعات المملوكة للدولة. لم تعد هناك رسالة توجه للأطفال في المدارس ولا للمواطنين في البيوت عبر وسائل الإعلام أن لا ينخدعوا بنماذج للنجاح والشهرة والغنى كالرياضيين والفنانيين والإعلاميين وغيرهم، وأن نسبة من يصل إلى تلك المكانة في تلك القطاعات بالنسبة للملايين الذين يرغبون في سلوك نفس الدرب ضئيلة جدا، وأن تلك النجاحات لا تحتاج فقط للكفاءة والجهد.

أتذكر عودة واحد من أبنائى من مدرسته الابتدائية في كندا يوما بعد الحصة الأسبوعية للأخصائى الاجتماعى والتي تتناول التعريف بالمجتمع والحرف والمهن والوظائف وتعليم التلاميذ كيفية الاختيار بينها لبناء مستقبلهم. أتذكر كيف كان ابنى يشرح لى إحتمالات ونسب النجاح التي رصدتها دراسة علمية لعدد من ينتهون من دراسة الطب بالنسبة لعدد من يبدءون تلك الدراسة، وأقل دخل يحصلون عليه، وما يتطلبه ذلك من سنوات دراسة ومصاريف، واستطلاعات رأى هؤلاء عن رضاهم عما حققوه بعد ذلك!

إن ما وصل إليه المجتمع المصرى من فوضى وانحلال وكراهية بين أبناء الوطن الواحد لم يحدث تلقائيا أو مصادفة بل حدث نتيجة تخلى المجتمع عن نقل رسالته الأساسية إلى مواطنيه عبر عشرات السنين للحفاظ على الركائز الأساسية التي يقوم عليها، بل إن الرسالة التي تصل الآن لم تعد لتقديس العمل والعلم والعدالة والمساواة والأخلاق، بل تمجد القوة وتشجع على النفاق وتبشر بإمكانية الحصول على نتائج دون تعليم أو بذل للجهد. ودون تكاتف المجتمع لعودة تلك الرسالة الأساسية يظل الخطر قائما يهدد بمزيد من التدهور وانتشار الحقد والكراهية.
الجريدة الرسمية