رئيس التحرير
عصام كامل

"أفق آخر" أطياف لا طوائف

فيتو

جَرّب العرب حقبة ما يُسمى ملوك الطوائف في الأندلس، وانتهى المشهد إلى خروج أبي عبدالله الصغير من باب كُتب عليه زَفْرَة العربي الأخير، عندما أَدَبَرت الخيول وغابت شمس العرب عن غرناطة، يومها عيّرت عائشة ابنها الذي أدبرت خيوله قائلة له: "ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً" .

ولم تكن تلك تجربة السقوط الوحيدة في تاريخ طالما كَبَتْ خيوله وتماوت بعيره لكنه لم يمت، ورسالة ابن سيار الشاعر والوالي في خراسان إلى الخليفة الأموي ربما كانت أقصر برقية تنذر بالزلزال عندما رأى تحت الرماد وميض جمرٍ ويوشك أن يكون له ضرام.
جَرب العرب منذ أمرئ القيس الاستقواء على ذوي القربى، ذلك الملك الضليل الذي تقرّح جلده من ثوب أهداه إياه القيصر ومات في الطريق ولايزال رميم عظامه يرشح غربة وندماً في سفح جبل عسيب في تركيا.
جرب العرب مراراً وتكراراً ظلم ذوي القربى الأشد مضاضة، ودفعوا جميعاً الثمن وعندما تناحرت الفرق السبعون التي كان رهان حربها فرقة واحدة ناجية من النار، التهمت النار ما تراكم من هشيم ذلك الزمن.
وحاول الاستعمار الحديث وما بعد الحديث أيضاً، أن يستثمر تضاريس الطوائف فأفلح مراتٍ لكنه أخفق مراراً، سواء في مصر منذ احتلالها البريطاني العام ،1882 أو في فلسطين عشية السطو الصهيوني عليها.
كان الخيار ولايزال بين أن تكون الأمة أطيافاً أو طوائف، فالأطياف قوس قزح، وتعايش للألوان وصهر للهويات الفرعية والانتماءات الصغرى في بوتقة الهوية الأم، وهي الهوية الرؤُوم التي طالما آمنت من لاذ بها من خوف، واليهود الفارون من عَسْفِ أوروبا المظلمة في عصور الانحطاط، مثال لم يغب ولن يغيب عن ذاكرة مؤرخي العالم.
الأطياف تنوّع وائتلاف يُغْني ويعدّد، أما الطوائف فهي إذا طفت على سطح الحياة السياسية تصبح انتحاراً قومياً بامتياز، لأنها عندئذٍ تعيد ترتيب أولويات الأعداء والحلفاء معاً، ويصبح التآكل بديلاً للتكامل، لهذا فأي رهان على غير الالتْئام في الهوية القومية الأم هو مجرد سيوف خشبية تتكسر تباعاً على طواحين الهواء . وحين كتب الراحل خليل حاوي الذي أطلق رصاصة على قلبه ليصطاد ما تراكم فيه من حزن عندما شاهد أول دبابة "إسرائيلية" تدخل إلى بيروت: "إنهم يفسخون مياه البحر، بل يُفرغونه في جرار وزجاجات كي يفقد أمواجه وتياره".
لم يذهب بعيداً في الخيال، فالتطييف والتّمذهب وإعادة رسم التضاريس تاريخياً وقومياً وثقافياً خطوط طول وعرض طائفية هي سُبُل نموذجية لتفسيخ مياه المحيط وليس البحر فقط، بل هي وصفة استعمارية لتَجْريف الهوية الوطنية، وبالتالي تسهيل اقتسام الغنائم .
ونحن في غنى عن سرد الأمثلة الآن على امتداد هذا الوطن العربي، فالأنباء على مدار الساعة، وكذلك ما تعج به الفضائيات، يعفينا من الكلام لأن ما تراه العين يُكَذب اللسان .
فالبحر الآن يُعبأ في فناجين وليس في جرار فقط، والشجرة الطائفية حجبت الغابة القومية والوطنية .
نقلاً عن الخليج الأماراتية
الجريدة الرسمية