عندما قالت مصر: لا نريد حربًا جديدة
سألت واحدًا من كبار القوم: لماذا لا نقيم علاقات دبلوماسية مع إيران؟ فقال: لأن إيران لها أطماع في المنطقة.. قلت: أليس لنا أطماع في المنطقة حتى ولو من أجل تأمين مصالحنا وأمننا القومي؟.. قال: مصر لا تطعن من الخلف.. قلت: ولكن مصر يطعنونها من الخلف في كل يوم وليلة.. قال: نواجه ذلك بحكمة.. قلت: أليس من الحكمة أن نكون نحن وبقدراتنا قناة التواصل بين الخليج العربي وإيران.. قال: نحاول أن نكون شريطة أن ينطلق ذلك من كون أمن الخليج العربي جزءا لا يتجزأ من أمننا القومى.. قلت: وإذا كان بعض أشقائنا يفهمون ذلك على نحو خاطئ فيتصورون أنهم قادرون على قيادتنا لحروب.. قال: لنا رأينا الذي يحترمه الآخرون.
تذكرت هذا الحوار عندما قال الرئيس عبد الفتاح السيسي إن المنطقة لا تحتمل فوضى جديدة، وذلك في إشارة إلى ما يحدث على الساحة اللبنانية، وأظن أن هذا التصريح هو واحد من أهم ما أدلى به الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ توليه الحكم.. قبيل هذا التصريح كانت الأحداث تتوالى في اتجاه آخر تماما.. كانت آلة الإعلام الموجهة تشدنا إلى حرب جديدة صوب إيران وبيروت، وهو التصريح الذي أوقف نزيف الحديث عن حرب جديدة لمواجهة إيران على الساحة اللبنانية.
منطقي في هذا الأمر أن تصريحات السيسي أعقبها تحرك دبلوماسي مصري صوب الخليج، لمواجهة نبرة الحرب، ومنطقى أيضا أن ما قاله السيسي ربما جاء على عكس ما كانت عواصم عربية ترغب، وأيضا لأن ما قاله كان واضحًا وشفافًا وصادرًا من أكبر دولة في محيطها، ومن قائد أعلى لأقوى جيش في محيطه.. الأمر الذي فرض على الجميع أن يتعامل معه باعتباره بوصلة تحرك مصرية مستقلة، تفرض نفسها بما لديها من قوة.
حرب «خليجية - إيرانية» معناه أن تكون مصر في القلب منها، إذ لا جيش يستطيع أن يواجه إيران غير جيشنا، وجيشنا لا يخوض حروبًا بالوكالة، ودون قناعات قومية وأمنية تفرضها، وصانع القرار المصري قال كلمته الفصل في هذا الشأن «المنطقة لا تحتمل فوضى جديدة» فشعار مسافة السكة لا يعنى أن تقودك قوى إلى ما ترغب فالأمر أعقد من ذلك بكثير، ولا يعرف الحروب إلا من خاضها، وهو الأمر الذي فرض على مصر أن تحاول إقناع المملكة بعدم الدخول في حرب اليمن، وذلك انطلاقا من تجارب سابقة يعرفها القاصى والدانى.
تصريحات السيسي تعنى أن القرار المصري مستقل، وأن أجندة الحوار التي تتبناها القاهرة يجب أن تكون الأولى وأن الدبلوماسية المصرية قادرة على قيادة هذا الحوار، لنزع فتيل أزمة لو اشتعلت فإن نيرانها ستطال الجميع، وربما تؤدي إلى تفكيك دول واحتلال أخرى، وتغيير خارطة المنطقة لصالح العدو الاستراتيجي الوحيد في المنطقة.. عدو العرب وإيران.. الكيان المحتل والمسمى فرضا وقهرا إسرائيل.
مصر لا ترى أن الحرب حل مثالي لما تمر به المنطقة.. و«مصر ترى» هي الجملة الفاصلة لما يمكن أن نستنبطه من تصريحات السيسي وجولة وزير الخارجية إلى دول الخليج والأردن، للوصول إلى حوار عربي يختار من بين البدائل المطروحة ما يمكن من خلاله تحقيق الأهداف العربية، وتأمين الخليج العربي من عبث الإيرانيين، ونظن أن تواصلا مصريا إيرانيا لا بد وأن يخلق قناة تواصل أخرى، إذ ليس من المنطقى أن نتصور أن طهران تسعى أيضا إلى حرب مهما كانت ممارساتها، فالدول الكبرى التي خاضت حروبًا تدرك خطر الحرب وكارثيتها.
الأزمة الآن تضع الدور المصري في وضعه الطبيعي، بعد سنوات من الغياب، سيطرت فيها عواصم المال، خاصة عندما سلم مبارك كل مفاتيح بلاده إلى عواصم لم تكن تدرك أن المعين الحضاري وأسباب القوة لا تزال تكمن في القاهرة مهما كانت الظروف.