ريحة الشتا في الصعيد!
هناك في الصعيد كنا نجمع الحطب والأخشاب لنوقدها أمام المنازل ليلا، ويلتف الصبية من أبناء العائلة لنتسامر ونتبادل الحديث والحكايات، وفى المنازل كان يتم تجهيز "المنقد" في المغربية، لتوضع به "كوالح الدرة" ليتم إشعالها والتدفئة بنيرانها الذهبية. هناك كان التجمع والتسامر والتواصل وكان أحلى شاى هو ما يتم إعداده في "المنقد" بعد صفاء النيران، وخاصة إذا كان بجانبه خبز "البتاو" محمصا على نيران المنقد الصافية.
حال كنا تلاميذا صغارا في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات كنا نتشوق لأمطار الشتاء، حيث اللهو واللعب تحت المطر، وكان شعارنا: "مطرى يا مطرة عباس...خلى حميدة تملى البلاص" ولا أدرى من عباس ومن حميدة حتى الآن! كان الضحك لا ينقطع على أحدنا الذي سقط في وحل أمطار الشتاء، فقد كنا نترجل على الأقدام قرابة 3 كم للوصول للمدرسة.
عند سقوط الأمطار كانت السيدات يتوجهن على الفور أعلى سطوح المنازل، لتغطية صوامع الغلال بالحصر، وكان حظها سيئا تلك التي قررت أن تعد العيش الشمسى في اليوم الممطر. هناك في بلادنا كانت الكوفيات والطواقى الصوف تعتلى رءوس الرجال في الشتاء، وكانوا يحرصون على ارتداء البالطو والعبايات السوداء أو البنية وقاية من برد الشتاء. العدس والمخروطة والبصل المشوى والبصارة والسحلب كانت مواد غذائية لها وزنها في مجابهة عواصف الشتاء.
هناك الشوارع تكاد تخلو من المارة بعد العشاء، وكذلك المقاهى، وكان الحظ مناسبا في ليلة الخبيز، حيث كانت الفرصة تسنح للتدفئة والخبيز في ذات الوقت. هناك في الشتاء كان الموعد لغلق التليفزيونات التي تواكب أيام الدراسة، فكأن الشتاء كان يأتي لنصبح في صوامع العلم والبيات الشتوى معا. هناك كان الاستيقاظ فجرا خاصة في الشتاء، ومازال صوت الشيخ الحذيفى يرن في مسامعى من شريط التسجيل العراقى الذي كان أهداه أحد الأقارب لنا في الثمانينيات، وأظن أن والدى ما زال يحتفظ بهذا التسجيل إلى الآن.
هناك كان التجمع وجها لوجه ومن يحتاج شخصا في موضوع يذهب لمنزله ليتناول الشاي ويقص موضوعه، كان الناس أكثر تقاربا وتواصلا بينما في عهد الإنترنت وتطبيقات فيس بوك وتويتر أصبح العزاء مجرد بوست، والتهنئة مجرد تعليق فتمزقت الكثير من الروابط.
رغم صقيع البرد وهطول الأمطار فإن الكثير كان يروى الزرع ويُخرج مواشيه للحقول ليس تحديا للطبيعة ولكن لحرصه على مصدر رزقه، وكثير ما ابتلى البسطاء في قوتهم، عندما تأتى الأمطار والرياح على الزرع المروى حديثا.
مع الشتاء تتجدد ذكريات الكثيرين وكأن الشتاء جاء لينقب في مكامن الماضى، ليبعث فيها كل ما هو جميل.
رحم الله كل من شاركونا ذكريات الماضى، ورحلوا عن عالمنا من أجداد وأعمام وجدات وأولاد عمومة وأصدقاء وزملاء، وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.