رئيس التحرير
عصام كامل

مصريون في غانا


مازلت أتنقل بين شوارع قديمة ربما وطأها المناضل الأفريقي كوامي نكروما، وربما خطب فيها، وربما رسم بنضاله العريق بعض ملامحها، فهو الذي خاطب شعبه قائلا: «إنني أعرف بينكم بكوامي نكروما مجردا من أي صفة».. وهو الذي تخطي بنظرياته حدود بلاده غانا، عابرا بها كل قطر أفريقي يئن تحت نير الاستعمار، مؤكدًا في كل مشوار حياته أنه يريد أن تكون بلاده منصة الحرية والاستقلال لكل دول أفريقيا.


تلك البنايات المتراصة على جنبات الطريق تحيطها أشجار وارفة، كانت من قبل بيوتا للمحتلين، عندما كان الشعب على الهامش.. قاد نكروما بلاده في ثلاث ثورات من أجل التحرر، كان أولاها ثورة الشباب على الجيل القديم، والثانية كانت ثورة ضد الحكام التقليديين فحقق الوحدة الوطنية في مجتمع ابتني قواعده على القبلية، والثالثة ثورة ضد الاستعمار.

كان شجاعًا في زمن عزت فيه الشجاعة، وعندما أطلقت بريطانيا شعار "محو السود من أراضيها"، أطلق شعاره "محو البيض من أفريقيا"، وما بين جدران سجون لا تعرف الرحمة، وعتبات الحرية المنشودة قضي حياته قائلا عشية الاستقلال: «إليكم عنا، فهذه بلادنا ونحن أصحابها، ونحن جديرون بأن نتولاها، لقد ولدنا اليوم ولكننا ولدنا أقوياء»، وظل يربط استقلال بلاده الكامل بتحرير كامل التراب الأفريقي، وكان صاحب الفضل الكبير في التعددية الحزبية حتى في الفترات التي ألغى فيها الأحزاب، لأسباب ترتبط بفكرة الإخلاص للثورة الغانية.

بعد كل هذه السنوات لا يزال تمثال نكروما يزين العديد من ميادين المدن الغانية، فهو البطل الأفريقي الذي أطلق عليه شعبه العديد من الألقاب مثل: "المسيح المخلص لبلاده"، رغم أنه كان مسلما ينتمي إلى الطريقة القادرية الصوفية، كما ذكر ابنه جمال، وأطلق عليه "المصلح"، والكثير من الألقاب التي يتغنى بها الغانيون حتى اليوم.

من حديقة مترامية الأطراف دخلنا إلى المبنى العتيق للبرلمان الغاني.. تلك البناية التي أقامتها شركة "المقاولون العرب" عندما كانت سفيرا قويا لمصر في بلاد القارة.. كاتي آدو أحد نواب البرلمان المخضرمين.. رئيس لجنة الصحة ونائب وزير الصحة سابقا، وواحد من عشاق مصر اصطحبنا في جولة حتى وصلنا إلى مديرة العلاقات العامة التي قدمت لنا فكرة مبسطة عن البرلمان الغاني وتاريخه.

منذ دستور ١٩٩٢م وتعتبر غانا من أنضج الدول الأفريقية في تجربتها الديمقراطية، حيث تجرى سباقات الانتخابات في أجواء ديمقراطية جيدة وتتداول السلطة بين أكبر حزبين، خاصة أن أفكار نكروما انقسمت إلى ثلاثة أحزاب بعد أن كانت حزبا واحدا.. الأحزاب الثلاثة يدعى كل واحد فيها أنه وعاء نظريات وأفكار نكروما وحده.. دخلنا إلى القاعة الكبرى حيث كانت تجرى وقائع استجواب وزير بالحكومة.. يرتدى النائب المستجوب رداء يشبه رداء القضاة لدينا.. يوجه ما لديه من أسئلة ثم يتولى الوزير الرد في لغة راقية، ويقوم على ضبط أداء المعارضة رئيس البرلمان الذي ينتمى للأغلبية بالطبع ببراعة وأدب والتزام.

داخل البرلمان تمثال كبير لنكروما، كتبت تحته بعض عباراته التي تعد دستورا فكريا وثوريا ملهما للأجيال المتعاقبة.. شرح لنا السيد آدو تفاصيل المبنى العتيق، والمبنى الآخر الذي يقف قويا وضخما وعملاقا من خلفه، حيث اتسع المبنى الحديث ليواكب الدور الذي يقوم به البرلمان، ويستوعب اللجان النوعية المتزايدة حسب الحاجة.

وغانا لا تعرف الفتنة.. لا القبلية ولا الطائفية/ بعد أن أرست قواعد المواطنة بشكل راسخ، حيث يحظى نائب الرئيس المسلم محمدو باوميا بشعبية جارفة، ساعدها فيها تخلى الرئيس عن بعض صلاحياته، وإتاحة الفرصة أمامه ليكون مرشح الحزب في الانتخابات الرئاسية القادمة، كما يروج البعض هنا.. البلاد آمنة بشكل ملفت للنظر تستطيع أن تتجول في الشوارع ليلا دون رهبة أو خوف، حيث تعد غانا من أكثر بلدان أفريقيا استقرارا وأمانا.

يتحدثون في غانا عن الشمال، كما نتحدث هنا عن الجنوب.. شمال غانا هي المناطق المنسية في الاهتمام، غير أنهم هناك يعرفون ذلك جيدا، فيتيحون الفرص الاستثمارية في الشمال، ويقدمون الإغراءات للمستثمر الأجنبي تشجيعا لاقتحام مشكلات الشمال والنهوض به.

في فجر اليوم التالي لزيارة البرلمان الغاني، توجهنا فجرا إلى المطار.. طائرة صغيرة تملكها شركة خاصة تسير وحدها سبع رحلات أسبوعية إلى تامالي في الشمال الغاني.. بعد خمسين دقيقة وصلت بنا الطائرة إلى مطار صغير كان قديما مطارا عسكريا.. إجراءات الخروج بسيطة، ووجوه الشماليين تكسوها طيبة أهل الصعيد في مصر.

كنا بصحبة الشابين المصريين إبراهيم حسبو ومحمد القليوبى، اللذين جاءا إلى هنا للاستثمار الزراعى في الشمال.. منذ أقل من عام ونصف العام كانا يتلمسان الطريق للاستثمار الزراعى في غانا.. طرحت عليهما الحكومة ٥٠ ألف فدان بالشمال.. وقعا عقد حق الانتفاع لتسع وأربعين سنة قابلة للتجديد.. استلما الأرض.. وبدآ في زراعة أول مزرعة نموذجية ألف فدان.. زارهما نانا آكوفو-آدو الرئيس الغاني الحالي ليطلع على تجربتهما، وعبر عن سعادته لما بذلاه من جهود كبيرة، ووعدهما برصف الطريق المؤدي إلى مزرعتهما، وبالفعل شرعت الحكومة في رصفه.

بعد خمس عشرة دقيقة وصلنا إلى بيت السيد هارون ملك الشمال، والذي تتوارث عائلته الملكية في هذه المنطقة منذ ١٢٦ جدا أي (والدا عن والد)  وهو شخصية متواضعة، كريم في بيته.. تعلم في لندن وعاد ليمارس حقوقه الملكية.. يعبر عن امتنانه للشابين المصريين اللذين استطاعا في فترة وجيزة أن يكونا ذا تأثير على القرى التي تقع فيها مزرعتهما.

قاد بنا إبراهيم حسبو رئيس مجلس إدارة شركة آي فارم صاحبة المشروع الزراعي، سيارة الدفع الرباعي إلى المزرعة التي تقع على بعد ١٢٠ كيلو مترا من مدينة تامالي وسط طريق معبد منه قرابة السبعين كيلومترا.. الأشجار الوارفة تحيط بالطريق، وغابات السافانا تغلف التربة الخصبة باللون الأخضر.. بيوت القرويين بسيطة، مبنية من الطين في دوائر محكمة، يبدو أن لها علاقة بالمناخ الاستوائى الحار السائد في غانا.

نحن على بعد قرابة الــ ١٥٠ كيلو مترا من بوركينا فاسو، وعلي بعد ٤٥٠ كيلومترا من العاصمة الغانية أكرا.. يخرج القرويون إلى الطريق من قراهم القريبة منه، ليوجهوا التحية لسيارة إحدى الشركات الاستثمارية في بلادهم.. هكذا يتعاملون مع المستثمر الأجنبي الذي جاء ليزرع ويخلق فرص عمل.

وصلنا إلى المزرعة النموذجية التي أقامها المصريون هنا.. استقدموا معهم بناة لصناع وبناة الطوب اللبن، بعد أن قرروا إنشاء ٢٢ قرية بديلة للسكان المحليين.. أنشأوا قمائن الطوب اللبن، وعلموا أهالي القرى صناعته لاستغلال قش الأرز الذي يزرعونه في حرق الطوب، والشروع في بناء القرى الحديثة للسكان.. استطاع المستثمرون المصريون الوصول إلى قلوب الناس هنا، تستطيع أن ترى ذلك من حفاوة الاستقبال.

ولأن الشمال لا يزال يشرب من مياه الأمطار، قام المصريون بحفر آبار للمياه النقية، ووضع الخزانات على مبان مرتفعة ليشرب منها السكان.. مشروع بسيط يلقى ترحابا من الأهالي.. بدأ الشباب في القرى في الانضواء للعمل في الزراعة المستقرة.. عدد لا بأس به من شباب المهندسين الزراعيين يشرفون على العمل، بعد أن أصبحوا جزءا من المنطقة.. يعيشون مع الناس.. يأكلون معهم.. يعلمونهم الكثير من أساليب الحياة الحديثة.

مزارع الأرز النموذجية تنبت أربعة أنواع من الأرز من بينها شتلات مصرية.. بشائر المحصول الذي بدأ حصاده تبشر بالخير.. مشتل نموذجي اجتذب عددا من شتلات النخيل المصري والطماطم التي بشرت بمحصول وفير تمت زراعته حول مبنى المهندسين الزراعيين.

قال لي المحاسب إبراهيم حسبو: إن السكان المحليين متعاونون ويقدرون ما نقوم به من أجلهم، خاصة أن المشروع يقوم على النهوض بالمجتمع المحلي، ويسعى إلى تعليم الأهالي حرفا لا يعرفونها، إضافة إلى التخطيط لبناء فصول دراسية لأبنائهم تعلمهم اللغة العربية، خاصة أن الغالبية العظمى في الشمال مسلمون ويحتاجون لتعلم لغة القرآن الكريم. ويؤكد حسبو أن الحكومة تستجيب لكل ما يطرحه من مطالب، بالإضافة إلى تفهم ملك الشمال لمتطلبات العمل الزراعى وإيجابياته في التعاطى مع ما يواجههم من مشكلات..

التقينا الناس في قراهم.. إنهم ودودون إلى أقصى درجة.. إيجابيون في تعاملهم مع الشركة الجديدة في بلادهم.. أمام كل ما رأيناه أستطيع القول إن عشر سنوات ستقفز بغانا إلى مصاف الدول الاستثمارية الكبرى.

الجريدة الرسمية