عفاريت عم «السيد»
يبدو أن الحكمة دائمًا تولد من رحم المعاناة.. فصراع المصريين مع النيل على مر التاريخ هو الذي أنجب فلاحنا الفصيح، وهو أيضًا الذي خلد نبى الله "يوسف".. وغيره كثيرون من عظماء هذا الوطن.. لم يأت إلى قريتنا "نبي" من السماء، ولم يقرأ سكانها ما كتبه "سقراط وأرسطو وأفلاطون" عن فلسفة الكون، وسير الحياة.. فقد علمهم الصراع مع النيل ولقمة العيش ما لم يعلمه فلاسفة الكون لطلابهم!
كان "عم السيد" صاحب الجسد النحيل والصوت واحدًا من الذين عشقوا النهر حتى النخاع.. لم يفكر يومًا في هجرته إلى بلد آخر يغنيه عن "العزيق" في أرض النيل السمراء كبشرة سكانها!
كنت دائمًا أسأله لم تعشق النوم على الأرض يا عم السيد؟ فيقول: كى أُشعِرَها بالأمان.. الأرض لا "تنبت" إلا إذا شعرت بالأمان.. حتى فراخنا لا تبيض دون أن تشعر بالأمان.. فقلت له ومن سرق "الأمان" من أرضك ياعم السيد قال "السد" الذي جعل أرضنا كـ"ضرع بلا لبن"! فقلت له ضاحكًا: يبدو أنك سوف تدشن لنا نظرية جديدة مفادها "الإنبات بالحب"!
كان لـ"عم السيد" خمس من البنين.. لم يفكر في هجرة القرية سوى ابنه الأكبر "عثمان".. الذي حين تمرد على الأرض والنهر، نادته "نداهة العاصمة" وراح يحتضن شوارعها المزدحمة، بعلب المناديل ذات الرائحة المصطنعة.. ولم يعد "عثمان" ثانية إلى القرية إلا محمولًا في صندوق خشبى، بعد أن أكل طعامًا يباع على عربة يسوقها "حمار"!
مات عثمان دون أن تنجب له "وفاء" طفلا بعد زيجة استمرت قرابة أربع سنوات، لعل هذا هو ما أحزن أهل القرية.. لكن عم السيد أبى ألا يكف الناس عن مناداته باسم "أبو عثمان" وحين كانت وفاء تفكر في الذهاب إلى الطبيب كمحاولة منها للإنجاب.. كان عم السيد يرفض ويقول: "وفاء" طينة أصيلة كالأرض لا تنبت إذا غاب عنها زارعها! لم تعاملون الأرض ككائن أصم لا يشعر.. الأرض تفرح حين يعود إليها زراعها، وتحزن إذا غابوا فلا تنبت!
كان لـ"عم السيد" أفكارًا غير تقليدية بالمرة.. فبالرغم من أنه ورث عن أبيه "خمسة" قراريط فقط من الأرض.. فإنه لم يسع أبدًا إلى زيادتها، وكان يقول ولِدتُ فقيرًا ولكنى سأترك للقرية أولادًا أغنياء!
كان "لعم السيد" كلام لم يدرك أهل القرية معناه.. وفى مواسم الحصاد كانت لا تحلو سهرتهم سوى بجوار جرنه.. الذي نجح بحكاياته الغريبة عن فلسفة النهر أن يجمع حوله شباب القرية.. أما الشيوخ فحين كانوا يسألون عن أبنائهم يقولون: لقد نادتهم عفاريت عم السيد.. أما عم السيد نفسه فكان يقول للشيوخ: الفقير ليس فقط الذي لا يملك أرضًا.. الفقير هو الذي لديه "شباب" ولا يستطيع أن "يستثمره"!
مرت أعوام طويلة سافر أهل القرية إلى العراق وليبيا والكويت والسعودية بحثًا عن لقمة العيش.. أما "عم السيد" فقد ظل حارسًا للأرض والنهر.. محتفظًا ببيته الذي بناه بالطين وسقفه بالخشب، وكان يقول لقد دمرت الهجرة الأرض وجعلتهم يستبدلون الطيب بالصالح.. وحين كان يعايرونه ببيته القديم؛ يقول: قديمُ بيتى حقًا، لكنه أصيل.. وغدًا حين تجف الأرض من "الخرسان" الذي زرعتموه فيها؛ لن تجدوا ملجأ لكم من المرض سوى بيتى؛ يريحكم من رائحة الأسمنت الممرضة!
مرت أعوام كثيرة.. كبر فيها "عم السيد" وأصبح أولاده من كبار ملاك الأرض، رغم أنهم لم يهاجروا إلى الخليج كغيرهم.. وحين جلست بجواره سألته مباشرة: كيف مَنَعتَ أولادك من الهجرة.. وكيف بفقرك اشتريت معظم أرض القرية؟! فقال عم السيد: لم أشترِ أنا لكن أولادي الذين اشتروا.. فمن الصعب أن تحدثني عن "الانتماء" في وطن يسكن فيه أبناؤه بـ"الإيجار" ويقتاتون فيه من أرض "مستأجرة"! لقد أدركت الدرس مبكرًا؛ فوزعت "قراريطي" القليلة على أبنائى، وورث كل منهم في حياتى قطعة من "الماعز".. أنظر إليهم الآن.. فقد صارت قراريطهم "أفدنة". وصارت ماعزهم "قطعان" من الجاموس والبقر!
وفجأة أمسك "عم السيد" بأذني وشدها إليه بعنف، وقال: اسمع يابني لا تطلب الانتماء إلى أرض من مواطن يعيش فيها بـ"آلية حق الانتفاع"!
لم تنته أفكاره الحكيمة عن هذا الحد.. فقد كانت لديه أفكارا جادة عن أسباب الفقر والغنى.. فكان حين يُسئل عن الفرق بين الفقراء والأغنياء يقول "الفقراء يحفظون مدخراتهم في بطونهم، بينما يحفظ الأغنياء مدخراتهم في الجيوب! وقال لى ذات يوم: لا تنتظر مستقبلًا من شعب "هَمُه على بطنه"! لا تنتظر مستقبلًا لشعب باع أرضه حتى يأكل. ورهن بيته حتى يعيش!
لن أنسى أبدًا حواره مع ابنه الأصغر حين أراد أن يقنعه بالزواج من أرملة أخيه.. حينها قلت له اتركه يا عم السيد يختار ما يريد، واترك البنت تعود إلى أهلها، وكفى ياعم السيد "من البيت مغرفة".. هنا انفعل عم "السيد" وكادت عفاريته أن تلبسني.. وقال بصوت عنيف: ورب الكعبة لن تذهبَ أرُضنا الخصبة إلى غيرنا.. الفرسة التي امتطاها "وَلَدِى" أولى بها أخوه.
وبالفعل تزوج إبنه من أرملة أخيه، وأنجبا طفلا، أسمياه "عثمان".. وحين رأى عم السيد الطفل يجرى إليه فاتحًا ذراعيه إليه.. جلس بركبته "قرفصاء" على الأرض، واحتضن عثمان بشدة، وعيناه تفيضان بالدموع، ثم نظر إلىَّ وقال: الآن عاد عثمان من السفر.. وُلِد "عثمان" من جديد.. وطلب منى أن أكتب القيراط الذي يملكه هو لـحفيده "عثمان".. فسألته لماذا ياعم "السيد" إنه مجرد حفيد كغيره من أحفادك.. قال: لا ليس كغيره.. فقدت ولدى الأكبر حين لم أملكه في قريته.. ولن أسمح لنفسى ثانية أن أفقد عثمان.. مَّلَكُوه في وطنه حتى لا يفكر يومًا في هجرة الأرض كما فعلها سابقوه! قلت له: "ربما طال بك العمر وكان من بينهما ابن عاق.. ضحك عم "السيد" وقال: رهانى سيظل دائمًا على "الحب" الذي وَّرَثتَه في قلوبهم للأرض!
وحين بدأ الفلاحون يرمون حيواناتهم النافقة في النهر.. حَّرم عم "السيد" على بيته أكل "القراميط" ليس لكونها تحيض كما يردد أهل القرية، لكنه كان يقول: "القراميط" تتغذى على الرمم؛ فاتركوها تنظف النهر من سلوكيات الفلاحين الفاسدة!
كانت دمعاته عزيزة لكنها غالية.. سألته ذات يوم: ما الذي أبكاك بحق ياعم السيد.. قال بكيت حين رأيت الصيادين يصطادون الأسماك بـ"السُم"، فقتلوا نهرًا كى يصطادوا سمكة! !قلت له ومتى ضحكت من القلب؟ قال "حين قبلنى" عثمان "على خدى.. شعرت بأن قبلته صارت "مِنديلا" يمسح دمعاتي التي لم تجف، منذ سافر عثمان إلى "العاصمة" ولم يعد!
Sopicce2@Yahoo.Com
وحين بدأ الفلاحون يرمون حيواناتهم النافقة في النهر.. حَّرم عم "السيد" على بيته أكل "القراميط" ليس لكونها تحيض كما يردد أهل القرية، لكنه كان يقول: "القراميط" تتغذى على الرمم؛ فاتركوها تنظف النهر من سلوكيات الفلاحين الفاسدة!
كانت دمعاته عزيزة لكنها غالية.. سألته ذات يوم: ما الذي أبكاك بحق ياعم السيد.. قال بكيت حين رأيت الصيادين يصطادون الأسماك بـ"السُم"، فقتلوا نهرًا كى يصطادوا سمكة! !قلت له ومتى ضحكت من القلب؟ قال "حين قبلنى" عثمان "على خدى.. شعرت بأن قبلته صارت "مِنديلا" يمسح دمعاتي التي لم تجف، منذ سافر عثمان إلى "العاصمة" ولم يعد!
Sopicce2@Yahoo.Com