الإعلام المصري انتصر في 1956 وانهزم في 2017
فعلا، كان للإعلام المصري دور هائل في دحر قوى الشر التي تكالبت على مصر، وأرادت لها أن تركع، في حرب 1956، وشنت عدوانها الثلاثي ضدنا. كانت "صوت العرب" بمثابة غرفة العمليات لثورات التحرر في الوطن العربي والعالم الثالث، ولم تكن مجرد إذاعة.. ومثلت هدفًا رئيسيًا للعدوان.
روى القصة الدكتور عبدالقادر حاتم، وزير الإعلام آنذاك، في عام 1956: "قبل الحرب كان عبد الناصر قد قال لي اذهب إلى فرنسا، وهناك ستقابل وزير الخارجية فأبلغه بأنك المسئول عن إذاعة "صوت العرب" بمصر، وبالفعل ذهبت إلى هناك وتقابلت مع وزير الخارجية الفرنسى، فقال لي "أنت جاي تقول لنا ننسحب من الجزائر وقمت بتهييج الشعب الجزائري كله في إعلامك، وتقولوا مليون شهيد وغير ذلك، وهل أنتم أحصيتم الـ "مليون شهيد"، وأعلم أن الجزائر هي أرض فرنسية فليس لكم ولا لهم الحق، فنحن الذين صنعنا هذه الأرض ثقافيا وأنشأنا فيها كل شيء"، فقلت له عبارة "إنه من الأفضل لفرنسا أن تترك الجزائر والجزائريين أصدقاء وبهم الثقافة الفرنسية ومبادئ حقوق الإنسان، التي ذكرتموها في عام 1889م، وما جاء بالثورة الفرنسية من الإخاء وغيره، وأن تكون هناك صداقة بلا دماء بين الشعبين وعلاقة ودية أبدية"، فقال لي: "لو تماديتم في إعلامكم ضدنا في الجزائر سنضرب صوت العرب بتاعتك دي"، وكانت معي نوتة "أكتب فيها أن عندهم هدف لو حدث أي شيء سوف يقوموا بضرب إذاعة صوت العرب".
ولذلك عندما اندلعت حرب 1956 كان مخططهم، والقول لعبدالقادر حاتم، ضرب "صوت العرب"، وقبل نزولهم بأيام أذاعوا إنذارًا للمواطنين بأنهم سيقومون بضرب "صوت العرب"، وكان هذا الإنذار يوم الثلاثاء وعبدالناصر سيخطب يوم الجمعة".
وبالفعل تم ضرب "صوت العرب"، بحسب وزير الإعلام وقتها، الذي قال: "قال لي عبد الناصر شفت "ملناش صوت خالص"، فقلت له: أنا عندي محطة سرية سوف أذيع منها، فسألني عبد الناصر: كيف عرفت أن صوت العرب ستضرب وعملت حسابك، فقلت له: عندما أرسلتني إلى فرنسا قبل الحرب علمت ذلك من وزير الخارجية كنوع من التهديد، لكنني أخذته على محمل الجد… وعندما حدثت الحرب وتوالت الأحداث اتصلت بلبنان وسوريا وأخذوا يذيعون "صوت العرب" من لبنان و"صوت العرب" من دمشق، وخطب عبدالناصر في يوم الجمعة المحدد، وردد كلمته الشهيرة: "سنحارب… سنحارب… سنحارب"، وهكذا كان الإعلام رأس حربة للانتصار السياسي، ثم انسحاب المعتدين عسكريًا.
أيضًا واصل الإعلام أداء دوره القوى.. فيروي عبدالقادر حاتم، رحمه الله، في ذكرياته عن الحرب: "استطعنا التواصل مع عدد كبير من أجهزة الإعلام المعارضة في العالم، وكنت أعطيهم المعلومات بالحالة، وأن الأمر هو اعتداء على قرارات الأمم المتحدة، وأنهم يقتلون الأطفال والنساء، ويهدمون الكنائس والمساجد بمعنى أن العملية "العدوان" أصبح عالميًا.. ووقتها ظهر الرئيس الفرنسي والذي كان يلقى معارضة وقتها، وقال للجمعية الوطنية: لماذا تهاجموني بسبب الحرب على مصر، فالجيش رفع العلم الفرنسي في الإسماعيلية، وهلل الجميع ووصلنا الخبر، وكان معظم الصحفيين الأجانب أصدقائي، وأنشأت لهم ناديًا خاصًا بهم ويتحدثون معي في أي وقت، وكان مندوب الوكالة الفرنسية في مصر وقتها صديقي وكنت قد وضعته مع الصحفيين الأجانب، وكنت أذهب للعشاء معهم، وأَعلمهم بآخر الأخبار..
وأبلغت المندوب الفرنسي بما قاله الرئيس الفرنسي، وأخبرته بأن عندي الآن سيارتين أتوبيس تأخذ كل الصحفيين وأنا معكم، ونقوم بجولة صحفية في الإسماعيلية حتى تروا مبنى قناة السويس، وما إذا كان مرفوعًا عليها العلم الفرنسي أم المصرى ولا أريد منكم إلا أن تقولو الحقيقة، وإذا لم تروا علما فقولوا: "إن هذا الرجل يكذب على شعبه"، وذهبنا في ساعة ونصف الساعة، وكان الرئيس الفرنسي ما زال يخطب، ويقول إن فرنسا دخلت الإسماعيلية..
وبعد وصولي والصحفيين إلى الإسماعيلية وإلى مبنى قناة السويس.. اتصل بهم مدير الوكالة الفرنسية بالقاهرة، وقال: لقد ذهبنا أنا و100 صحفي من جميع أنحاء العالم للبحث عن العلم الفرنسي في الإسماعيلية ومبنى قناة السويس فلم نجد شيئا، وقال في رسالته لرئيس الجمعية الوطنية: بصفتك رئيس الجمعية الوطنية فأنا ومعي 100 صحفي نقول لك: "كذاب كذاب كذاب"، ونرجو إعلان ذلك في الجمعية الوطنية.. وبعد نصف ساعة وجدنا كل الوكالة تقول إنه أخذ الرسالة وقرأها وقال لهم إن العالم كله يقول: "إن جي موليه كذاب كذاب كذاب"، واشتد الهجوم عليه واندلعت التظاهرات وبعدها انتهى جي موليه وسقط رئيس فرنسا".
هكذا كنا.. ثم صار لدينا إعلام يستقي معلومته من صفحات التواصل الاجتماعي، ليردد أي كلام، ثم لا يعترف بالخطأ، ولا يستنْكِف أن يرفض العقوبة، ويستمر سادرًا في غِيِّه، متباهيًا بخيبته وغبائه.