رئيس التحرير
عصام كامل

زكى نجيب محمود وأسلمة العلوم الإنسانية.. 4


ثار نزاع بين الدكتور زكى نجيب وبعض العلماء الذاهبين إلى الدعوة لأسلمة العلوم الإنسانية، والعلوم التى يقصدونها هي: «علم النفس، وعلم الاقتصاد، وعلم الاجتماع، وعلم الشريعة».

رفض زكى نجيب محمود هذا التقسيم الذى يضم علم الشريعة إلى العلوم الإنسانية، ويرى أن هذه الإضافة لا تصح، وإنما أضافها من أراد أسلمة العلوم الإنسانية؛ لكى يوهم المستمعين بصحة دعوته، على حين أن العلوم الشرعية لا تصح إلا أن تكون إسلامية، سواء كانت من ناحية الموضوع أو المنهج، وسواء كان الباحث مسلما أو غير مسلم.


قصر زكى نجيب محمود العلوم الإنسانية على علوم ثلاثة هي: «علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد»، ويحلل عناصر الدعوة إلى أسلمة العلوم الإنسانية، فيوافقها فى بعض الجزئيات وينقدها فى أكثرها.

وردّ هذا التوجه إلى رغبة بعض الباحثين فى الدعوة إلى أسلمة المعرفة؛ بسبب ما وجدوه من فشل لهذه النظريات الغربية، إلا أنه يرى أن فشل هذه التطبيقات لا يعنى أن مبادئها قد فشلت، وأن الفشل لم يشمل النظريات كلها، بل لحق بعض عناصرها.

قبل الدكتور "زكى" من أصحاب الاتجاهات القائلة بأن الأسلمة هى أن يلتزم كل علم بمجموعة من القيم والأخلاقيات فى مقدمتها: تحقيق العدالة الاجتماعية، والمحافظة على كرامة الإنسان وحقوقه المادية، وهذه القيم هى موروث مستمر مع المسلم منذ نزول القرآن بقيمه وأخلاقياته.

ورفض أن تستمد العلوم الإنسانية نظرياتها من كتب التراث القديمة؛ لأن هذه الكتب قدم فيها أصحابها حلولا عقلية، واجتهادات شخصية تصلح لحل مشكلات واقعهم، فإذا تغير هذا الواقع احتجنا إلى تطوير هذا الاجتهاد فى نطاق الأصول الثابتة والمبادئ العامة للشريعة.

ورأى أن الإسلام قد أحال الإنسان لعقله؛ ليحدث التكييف مع واقعه، فالقرآن جاء بحلول لطائفة من مسائل الحياة، إلا أن هذه الحلول لن تكفى الإنسان عبر العصور، لذلك أمر الإسلام الإنسان أن يركن إلى عقله بعد ذلك كلما جد فى حياته جديد.

ودلل على رفض الاتجاه القائل بالأسلمة بعدة أدلة، منها:

ـ يرفض ما يسمى بأسلمة المفرقة، مؤكدا أن فى هذه الدعوة مصادرة على المطلوب؛ لأنها تشترط على الباحثين أن يقروا بنتيجة قبل أن يسيروا فى بحوثهم، وهو أن تأتى نتائج أبحاثهم متفقة مع العقيدة الإسلامية.

ـ إن فى هذه الدعوة ميلا عاطفيا يدفع الإنسان إلى عدم التزام الموضوعية.

ـ إن فى هذه الدعوة نوعا من التعصب، لا يرينا من الموقف إلا ما نتمناه، وفى العلم يجب أن تذكر الحقيقة كما هى فى الواقع.

ـ إن فى هذه الدعوة خطورة أن يتحول العلماء إلى تلاميذ يكرسون كل مجهودهم لقراءة كتب الأسلاف، بدلا من الاطلاع على أحدث ما وصل إليه الغرب فى مجال هذه العلوم.

ـ إن المنهج الواجب استخدامه فى العلوم الإنسانية هو المنهج التجريبي، وهو منهج واحد عند الجميع باختلاف عقائد أصحابه الدينية.

ـ إن طبيعة هذه العلوم متجددة، لأن مشكلات الحياة تتجدد باستمرار، ولا نستطيع أن نقف عند مشكلات المسلم القديم؛ فالذى قابله ابن خلدون مثلا من مشكلات غير ما يلقاه الباحث العلمى الآن.

ـ إن النتيجة التى نصل إليها فى هذه العلوم هى نتيجة علمية؛ لأنها التزمت بالمنهج العلمي، بصرف النظر عن موضوعها أو عالمها، وتطبق على الإنسان فى كل مكان بصرف النظر عن عقيدته.

وأخيرا.. يبقى سؤال مهم هو: هل كان الرجل علمانيا؟... 


لقد صنّف بعض المعاصرين زكى نجيب محمود، ضمن زمرة العلمانيين، وأنه بناء على هذا التصنيف فرّق بين الدنيا والدين، وبين الأرض والسماء، وبين الدولة والدين، وأن اهتمامه تركز فقط على العالم، وأخرج الدين من دائرة الاهتمام أو التأثير فى شئون الحياة وتنظيمها.

وعند زكى نجيب محمود كانت هذه الدعوة مقبولة فى المرحلة الأولى من فكره، ومتسقة مع تصوره بمعنى الحضارة والتقدم؛ إذ كان ينادى فى هذه المرحلة بأن الشرق لن يتقدم إلا إذا تخلص من كل القديم، وأن يتخلى عن تراثه تماما، بل نادى بأن علينا أن نلقى به فى النار، وأن نستمد كل أنظمتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من أوروبا؛ لأنه لا يوجد لدى العرب فى تاريخهم، السابق أو الحالى، ما يصنع هذا التقدم المنشود، وكانت دعوة العلمانية، بالمعنى الأوروبى، هى التصور الملائم لرؤية زكى نجيب محمود.

ثم حدث التحول فى فكر الدكتور زكي، ومنذ ظهور كتابه «تجديد الفكر العربي»، وكتابه «المعقول واللامعقول فى تراثنا الفكري»، تغيرت هذه النغمة، وبعد أن كان الغرب، وحده، هو مصدر العقل والعلم والتحضر، أخذ الدكتور زكى فى البحث عن ملامح هذا العقل فى تراثنا، وانتهى إلى أن" الإسلام هو أكثر الديانات السماوية دعوة إلى العلم والعقل والتعقل".

وكان فى مرحلته السابقة يرى أن النموذج الكامل للحضارة هو النموذج الأوروبي، ثم تراجع عن هذا فى مرحلته الثانية، ورأى أن هذا النموذج للحضارة الغربية هو نموذج يسير على قدم واحدة، فهى، حضارة عرجاء غير كاملة؛ لأنها تهتم بالعلم والعالم، وتنسى الإنسان بما يملك من وجدان وثقافة ودين، ونادى بالجمع بين الدين والعلم معا كطرفين متلازمين لصنع الحضارة.

فإذا استطاع الإنسان العربى المسلم المعاصر أن يجمع بين العلم والدين، وبين العقل والقلب، وبين الجسد والوجدان، وبين المادة والروح، وبين الدنيا والآخرة؛ فقد حقق الحضارة الكاملة، وصار إنسانا تاما.

من كتابى "ضد الإسلام".. الطبعة الثانية.

الجريدة الرسمية