سكان المقابر «أحياء عند ربهم وأموات بين الناس بعد التعويم»
خلف أسوار الحياة يكمن الموت، ومع الأموات تكمن بقايا حياة لم ولن يشعر بها المجتمع، عام على التعويم مضى، تأثر بهذا القرار ملايين المصريين إلا أن هناك فئة من المصريين لم يتأثروا بهذا القرار، فكما قالت إحداهن "قال هيسخطوك يا قرد.. قال هيسخطوني إيه؟؟!"
شوارع صامتة لا يوجد فيها "محال" أو ماركات يتهافت عليها المشترون، فكل ما تشاهده هنا أطفال يلعبون وأم خرجت تشتري وجبة إفطارٍ أو عشاء لأطفالها من بعيد، وكما قالت الحاجة خيرية: "إحنا كنا بناكل لحمة قبل كدا، لكن دلوقتي بنشتري العضم نعمل عليه شوربة للعيال"، وبينما كان يكفي لإفطارهم جنيهًا من الفول أصبح الآن ثلاثة جنيهات منه ليست كافية، فكل ما تعاني منه أن وجبة الفول غلت، ووجبة اللحوم اختفت، ووجبة العشاء تم اقتصادها في بعض الأحيان توفيرًا لنفقات الحياة التي تنعدم مواردها إلا قليلًا.
"أنا هنا من 65 سنة، جوزي سابنا ومشي، جوزت عيالي ومعايا أولاد بنتي عشان اتطلقت، جابت عفشها وقعدت معايا، بتشتغل عاملة نضافة عشان تصرف علينا، بنجيب أرخص حاجة وأهي ماشية والحمد لله"، الرضا هو سيد الموقف هنا، فالبساطة تحف كل الأشياء، وكأن زهد الأموات يفيض من مقابرهم ليغطي ساكني القرافات وأحواش الموتى، فعندما سألنا "الحاجة خيرية" التي رفضت أن نلتقط صورا لها لأنها من صعيد مصر ولا تستطيع أن تظهر أمام الكاميرا، قالت: "الحمد لله، ماشية وكل حاجة كويسة"، وبالنظر إلى هذه الـ "كل حاجة الكويسة" لم نستطع أن نرى سوى قبور موتى وأطلال بيتٍ وأطفال يضحكون غير آبهين بما يجري من حولهم.
كل ما تتمنى هذه السيدة هي "غسالة بالكهربا" لتقي يديها المتورمة من ويلات الغسيل، وتكف هي الأخرى عن طلب غسالة جارتها العروس التي تزوجت منذ سنتين، أي قبل التعويم، لتحكي لنا: "أنا اتجوزت من سنتين ومعملتش فرح، عشان الناس الميتين، مجبتش جهاز زي العرايس بس مبسوطة، قاعدة في أوضة وحماتي وأخوات جوزي السبعة في الأوضة التانية، والباقي للميتين"، هكذا تحكي "بسنت ذات السبعة عشر ربيعًا أو خريفًا ولكنها تبتسم راضيةً جازمةً أن كل ما تتمناه أن يجدوا بيتًا بعيدًا عن المقابر لكي يتزوج أخوات زوجها، وأن يجدوا بيتًا يشرفهم أمام العروسين المنتظرين، ويستطيعون أن يخرجوا منه "عرائس"، تلك الأسرة هي أبعد ما يكون عن التأثير بالتعويم، فهم مُعدمون، يعطف عليهم أهل الموتى بالسكن ويعطيهم الزائرون صدقة على أرواح موتاهم.
"تكفل الدولة حماية الطفولة والأمومة، وترعى الأطفال، وتعمل على تهيئة الظروف المناسبة لتنشئتهم التنشئة الصحيحة من كافة النواحي في إطار من الحرية والكرامة الإنسانية"، هذا هو نص المادة الأولى من قانون الطفل المصري رقم 12 لسنة 1996 والمعدل بالقانون 126 لسنة 2008، ولكن من الواضح أن هؤلاء الأطفال لا ينتمون إلى عالم الأحياء، وذلك لوجودهم بين الموتى، فهم ينتمون إلى عالم الأموات، وتقول جدتهم لأمهم "بنوديهم المدرسة بس مبيشتروش هدوم ولا أدوات جديدة، بياخدوا الحاجات ورا بعض، ومبنشتريش هدوم للعيد عشان اصلا هما بيبقوا قاعدين في القرافة، هيروحوا فين يعني؟! بس بنضطر نشتري هدوم مستعملة للشتا عشان البرد"، هم يشترون ما يحتاجونه الاحتياج الذي لا يمكن الاستغناء عنه، فملابس العيد تسقط أمام ملابس الشتاء واحتياجات المدرسة تُدبر من أموال الطعام، أما عن الرفاهية، فـ "لهم رب اسمه الكريم"، على حد قول جدتهم.
عام مر على زيادة كل السلع تحولت فيه الطبقة المتوسطة إلى طبقة فقيرة بامتياز، وتحولت الطبقات الفقيرة إلى مُعدمة، وفي طيات هذا التحول، هناك تساؤل غاب عن ذهن الكثير، ما بال المُعدمين؟ وكيف أصبحوا؟! وإلى أين نحن ذاهبون؟!