رئيس التحرير
عصام كامل

كباريه الحشمة والأدب


كان من سخافات أفلام السينما المصرية القديمة التي تربينا عليها وعشقناها، محاولة إقناعنا بأن الراقصة فنانة محترمة ومهذبة، بل في بعض الأحيان كان من الممكن أن تكون واعظة في يدها اليمين مسبحة وفى الأخرى كأس ويسكى!.. عادى جدا، المهم أنك عليك الاقتناع بأن مجتمع الراقصات، يؤدين أدوارا محترمة لفتيات مهذبات رائعات محترمات شريفات.. نعم هن راقصات ولكنهن ملتزمات فاضلات!، ولقد بلغ العبث مداه في أحد تلك الأفلام عندما وجد السيناريست مع مخرج الفيلم حلا عبقريا لأزمة المشكلة الوجودية الخاصة بعمل الراقصة في (كبارية).. فاختار اسما مضحكا هزليا في نظر الجميع، لكنه في نظرهم وحدهم كان كفيلا بحل تلك الأزمة الوجودية الخاصة بمجتمع الرقصات فأطلقوا على الكبارية اسم كبارية الحشمة والأدب!


للأسف تجد لهذا الواقع الافتراضى القديم في السينما المصرية، صدى وجوديا فعليا في واقعنا الحالي، فنحن مهما أطلقنا من مسميات على أشياء عبثية تظل النتجية عبثية وكاشفة وفاضحة لعجزنا وخيبتنا وربما بلاهتنا أيضا، فمثلا الكبارية مهما أطلقت عليه من أسامى محترمة وصبغنا عليه صفات مثالية أخلاقية، لن يتبدل وسيبقى دار للرقص والخمور والخلاعة وكافة الموبقات، وأيضا الاقتصاد مادام اقتصادا ريعيا كحوليا لن يثمر ولن يخطو بنا خطوه للأمام، مادام الإنتاج الصناعى والزراعى غائب عن المسئولين، لن نشعر بأى تحسن فعلى في المعيشة، فطالما أصبحنا نتغنى بمدن ترفيهية للصفوة المحظوظة وبعدنا عن البناء الشعبى لملح الأرض من المصريين لن يكون هناك أمن حقيقى ولا اقتصاد ناجح.. فقط سيصبح لدينا عشرات من ببغاوات التوك شو الليلى يمجدن في السراب ويصنعن أسوار وحواجز مثل تلك التي تبنى حول مدن الصفوة ولكنها ستكون حواجز وأسوار حقيقية مظلمة وظالمة بين أصحاب السلطة والشعب.

بـ 350 ألف بس.. يا بلاش!
ولعل أوضح مثال يتكرر يوميا في الفضائيات عن واقع كباريه الحشمة والأدب، إعلان تجارى عن بيع الشقق للشباب.. شقة لا تتجاوز 40 مترا فقط، أي زنزانة صغير، ب 350 ألف جنيه!.. يا بلاش، هكذا تقول الأم المنبهرة في الإعلان تشجيعا لشاب وفتاة أمامها على وشك الزواج.. عليهما إذن أن يغتنما الفرصة قبل ضياعها.. وأيضا الفتاة (العروسة) تعلن عن ذهولها من رخص السعر فتقول لمن يخبرها بالثمن.. بتهزر!

الجميع يهزر !
بالله عليكم كيف يتمكن شاب مصرى أن يجمع 350 ألف جنيه حتى وإن أعجبته هزة الشقة الزنزانة وإقتنع بإمكانية المعيشة فيها!.. كيف يحصل شاب مصرى متعلم عمل لمدة معقولة، عشر سنوات مثلا، على الحصول على هذا المبلغ بينما الحد الدنى للأجور لا يتجاوز 1200 جنيها أي ستين دولار تقريبا بعد التعويم المبارك!، كيف يمكن أن يأتى بثمن أقل وأصغر شقه في وطن لا يعرف الفقراء ولا يعترف بهم ويعتبرهم عالة عليه بينما هم الأغلبية والاكثرية المطلقة في أرضه، عليه إذن أن يعمل 30 عام تقريبا حتى يستطيع تجميع هذا المبلغ بدون أن يأكل أو يشرب أو يشترى قميصا يستر به نفسه.. أو أن يسرق أو يتطرف وتتلقفه يد مجرمة آثمة.. الحل إذن أن ننسى ونعتقد أننا نعيش في عالم خيالى مثالى مُسكر مُغيب مثل عالم كبارية الحشمة والأدب!
fotuheng@gmail.com
الجريدة الرسمية