مجتمعات آيلة للسقوط !!
لقد وصلت مجتمعاتنا العربية التي تحررت من الاستعمار القديم تباعًا بعد الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع السبعينيات من القرن العشرين، إلى حالة من التدهور الشديد على كل المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وهو ما وضعها وبجدارة ضمن مجتمعات العالم الثالث في الدراسات والتقارير الدولية ذات العلاقة، لذلك حاولت منذ إعلان استقلالها النهوض للحاق بركب التقدم، لكن الاستعمار الجديد الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية كقوى عظمى في العالم بعد الحرب العالمية الثانية كان قد اخترع آليات جديدة لاستمرار التبعية وتكريس التخلف داخل مجتمعاتنا العربية من أجل استمرار استنزافها ونهب ثرواتها.
وتعددت أشكال محاصرة ومحاربة أي تجربة تنموية مستقلة وتعد تجربة جمال عبد الناصر هي الأبرز في هذا السياق، حيث تمكنت من مواجهة القوى الاستعمارية القديمة والجديدة وقامت بتشييد مشروعها التنموي الذي حقق نجاحات كبيرة انعكست على أحوال الغالبية العظمى من المواطنين خاصة الفقراء والكادحين والمهمشين على كل المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وبإجهاض هذه التجربة تدريجيًا بالهزيمة العسكرية في يونيو 1967 ووفاة عبد الناصر في سبتمبر 1970 وتصفية أركان نظامه في مايو 1971، والإعلان عن الانفتاح الاقتصادي في أكتوبر 1974 وزيارة السادات للقدس نوفمبر 1977، وتوقيع اتفاقية "كامب ديفيد" في سبتمبر 1978 نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في تشكيل نظام عالمى جديد بقيت فيه مجتمعاتنا العربية في ذيل الترتيب العالمي على كل المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
وإذا كان الاستعمار القديم قد قام باعتماد آلية التقسيم والتفتيت لمجتمعاتنا العربية لإضعافها والاستيلاء على خيراتها، حيث قامت إنجلترا وفرنسا بعملية التقسيم في مطلع القرن العشرين وتم توزيع الغنائم فيما بينهما، ولم تكن الولايات المتحدة الأمريكية قد ظهرت على الساحة الدولية كقوى عظمى لذلك لم تحصل على نصيبها من كعكة التقسيم والتفتيت، وعندما أصبحت هي القوى العظمى في العالم رأت أن هذا التقسيم لم يعد صالحا وعليه لابد من بدء عملية تقسيم وتفتيت جديدة تخضع لهوى المستعمر الجديد.
ومع مطلع السبعينيات من القرن العشرين بدأت في رسم خريطة جديدة لنفوذها في المنطقة العربية، ورسمت مشروعها التقسيمى والتفتيتى الجديد عبر أفكار زبيغنيو بريجنسكى وبرنارد لويس، وبدأ المشروع في تنفيذ مخططاته الشيطانية عبر آليات جديدة تعتمد بشكل أساسي على إشعال الفتن الداخلية الطائفية والمذهبية والعرقية، هذا إلى جانب تكريس التخلف والتبعية وعدم تمكين مجتمعاتنا من أي عملية إصلاحية على المستوى الاجتماعى والاقتصادى والسياسي والثقافى، لذلك عندما انطلقت شرارة الربيع العبري كانت غالبية مجتمعاتنا العربية قد أصبحت آيلة للسقوط.
فالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للغالبية العظمى من المواطنين داخل الأقطار العربية المختلفة- بدرجات متفاوتة- قد أصبحت متدهورة بشكل كبير ولم تعد عمليات الإصلاح تجدى معها فعندما تم إشعال النيران كانت التربة جاهزة ومستعدة للاشتعال، فالتحرك في تونس ومصر واليمن وجد البيئة الحاضنة جاهزة للانفجار نتيجة التفاوت المذهل والاستقطاب الواضح في الخريطة الطبقية داخل هذه المجتمعات، حيث يمكنك وبسهولة شديدة ملاحظة الفروق الشاسعة بين فئة قليلة من الأغنياء وغالبية كاسحة من الفقراء، وهو ما لم تستطع معه السلطة السياسية في الصمود كثيرًا أمام الطوفان الجماهيرى المنفجر.
وبالطبع الوضع في ليبيا كان مختلفًا إلى حد كبير لكننا لا نستطيع أن ننكر أن السلطة السياسية التي استمرت على مقاعدها لمدة تجاوزت الأربعة عقود كانت قد تكلست ولم تستطع بناء مشروع تنموى حقيقي رغم توفر كل الإمكانيات المادية اللازمة لذلك، فعندما اشتعلت النيران كانت البيئة الحاضنة جاهزة، حيث استخدمت ورقة الفتنة بين القبائل والعصبيات، وانتشرت بينهم الجماعات الإرهابية والمليشيات المسلحة الوافدة من الخارج بواسطة المال الخليجى والسلاح الأمريكى– الصهيونى ودارت الحرب على كامل الجغرافية الليبية وحاولت السلطة إطفاء النيران المشتعلة لكن القوى الخارجية الأصيلة في هذه الحرب كانت قد أسرعت بالتدخل العسكري المباشر واستمرت في القصف الجوي المساند للوكلاء الإرهابيين على الأرض، ورغم الصمود لمدة ثمانية أشهر فإن حجم المؤامرة كان أكبر من قدرات ليبيا وجيشها وقيادتها السياسية على الصمود.
والوضع الوحيد المختلف إلى حد كبير في هذه المؤامرة على أمتنا العربية هو وضع سورية التي كانت قبل اشتعال النيران قد تمكنت من بناء مشروع تنموى مستقل إلى حد كبير، فكانت الدولة العربية الوحيدة التي تأكل مما تزرع وتلبس مما تصنع وكانت قد اقتربت من تحقيق الاكتفاء الذاتى وكانت الدولة العربية الوحيدة التي لا توجد عليها ديون خارجية خاصة للقوى الاستعمارية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الرغم من محاولات الأمريكان والصهاينة استخدام كل أدواتهم التقسيمية والتفتيتية في حربهم الكونية على سورية فإنها تمكنت من الصمود بفضل مشروعها التنموي وصلابة وتماسك شعبها وقوة جيشها وقدرة قيادتها السياسية على إقامة تحالفات استراتيجية قوية على المستويين الإقليمى والدولى.
وبالطبع لم تنته المؤامرة على أمتنا العربية فمازال المشروع التقسيمى والتفتيتى الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها الصهيونية لم يحقق أهدافه كاملة ومازالت هناك مجتمعات عربية لم تشتعل النيران فيها بعد لكنها بأوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية تعد آيلة للسقوط، وعليها أن تتحرك فورًا لترميم مجتمعها من الداخل، وأولى عمليات الترميم هي بناء مشروع تنموى مستقل والفكاك من أسر التبعية للمشروع الاستعمارى الغربي، والتحرك نحو إحياء فكرة الوحدة العربية فهي السبيل الوحيد لمواجهة مخططات التقسيم والتفتيت، اللهم بلغت اللهم فاشهد.