رئيس التحرير
عصام كامل

مدن جديدة؟! إذن لابد من شعب جديد!


لابد أن كل مواطن مصري، يتمتع هذه الأيام بنسائم من السعادة، محملة بأجواء أكتوبرية، ولابد أن لهذا الشهر خصوصية تاريخية، ففيه انتصرنا على الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، وفيه صعد المنتخب المصري إلى مونديال روسيا لكأس العالم، العام القادم، إثر معركة رياضية حربية نفسية مهارية ضارية، بكل معنى الكلمة.


ولابد أيضا أن الرئيس عبد الفتاح السيسي، وهو يعيش معنا هذه المشاعر التي هو جزء منها بالمشاركة أو بالقرار، وضع في اعتباره استمرار ضخ الطاقة الإيجابية الحالية في صدور وأوصال جميع طوائف الشعب المصري.

وهكذا قدم للمصريين المشروعات الأولى التي أنجزت في العاصمة الإدارية الجديدة.. ومع كل الشرح والتوضيح والتفصيل المبهر من المسئولين كافة، فإن أكثر ما يلفت النظر، بعد العرض العام لشتي جوانب الإنشاءات، أن التسمية الشائعة بأنها عاصمة إدارية هي خطأ واضح، لأن حي الأعمال والحكومة يمثل تقريبا ثلث مساحة المدينة. هذه، في الحقيقة، ملاحظة عابرة، وأظن أن المعلومة الغريبة التي كشف عنها المهندس الفرعوني مصطفى مدبولي وزير الإسكان، هي الأجدر بالتأمل. فقد قال إن سكان القاهرة يعيشون على ٩٥ ألف فدان، بينما مساحة المدينة الجديدة ١٧٠ ألف فدان، وتضم ستة ملايين وستمائة ألف مواطن.

معنى ما سبق أن هناك أكثر من عشرة أو اثني عشرة مليون مواطن، يعيشون في مساحة هي نصف أو أكثر قليلا من مساحة العاصمة الجديدة. هذا تفسير منطقي لسلاسل الأمراض والعاهات والجرائم والأزمات التي تضربنا جميعا في مقتل، وتعطل قدرات الشعب على الإبداع وعلي العمل وعلي حب الحياة.

كلنا نصحو من النوم وننزل إلى شوارع عدوانية، وبشر طهقانين، وكلنا كارهون لعيشتنا، بسبب ثقافة الازدحام الشديد. المدينة الجديدة فيها شبكة طرق ٦٥٠ كيلو مترا، أنفاق، بنايات، ناطحات سحاب، برلمان ومجلس وزراء وحدائق ونهر أخضر، و١٥ مترا مربعا خضرة ينعم بها بصر المواطن، وتخطيط ذكي مبدع، ودور للثقافة وللفنون وللعبادة. كل شيء.. كل شيء. وهذا كله في الحقيقة رائع ومعجز، بالقياس إلى أنه خارج موازنة الدولة، وليس على حساب الناس، وأنه في النهاية حلم يتحقق في زمن خاطف، وفي ظرف دولي خانق!

هي مدينة نبنيها جديدة إذن، فهل لدينا شعب يستحقها؟!

بالطبع لا أقصد اساءة ولا إهانة، فنحن شعب نستحق ما هو أروع، بل نستحق حتى الجنة لو مسح الله خطايانا، لكنى أقصد أن الناس لم يتم تجديدهم ولا تشطيبهم ولا ترميمهم، ولا حتى تنكيسهم بلغة المعمار. 

الجهل سيد السلوكيات. الفوضي الحاكم الشرعي في الشوارع. قلة الأدب والسفالة والبلطجة عملة يومية متداولة. تلاشي النظافة الشخصية، ومعاشرة القمامة، والاعتياد عليها صور حياتية، تحطيم وتمزيق وتكسير وخربشة وتجريح كل ما هو جديد ولامع إرث متداول بين أبناء الشوارع.

 التعبير الأخير لم يعد قصرا على من ولدوا سفاحا تحت الكباري، أو في عربات السكك الحديدية المهجورة. بل ينسحب على كل أب وأم سافر إلى الدولار والريـال والدينار، وترك أولاده يربيهم إدريس الأسود أو زكية مهلبية!

نبني المدن الجديدة، ١٣ مدينة ستغير وجه مصر الحضاري، لكن ماذا عمن سيسكنون فيها؟!

قلب القاهرة الخديوية هو قلب باريس. رأيت ذلك بعيني وحزنت. ليس الفارق في المباني، بل الفارق في الناس. وجوه لامعة، وشوارع نظيفة وواجهات تتحدي الزمن بالأناقة، وعندنا وجوه غاضبة وملابس مبهدلة وعيون شاردة، ونظافة شخصية موضع شك!

أشعر بسعادة بالغة بعد أن رأيت إنجازات اليوم وغدا ما هو أكثر، ولدي قدر هائل من التفاؤل والثقة في الغد، لكنى أتمنى لو تتم إعادة تعليم وإعادة تلقين القيم والأخلاق لنا جميعا. نحن لسنا نحن. تغيرنا للأسوأ، وهذه البنايات والعمائر تحتاج بشرا جديدا نظيفا منضبطا، وهذا بدوره أمر سهل جدا: بالقانون الصارم الذي يتساوي أمامه الجميع يمكننا الحفاظ على الحياة الجديدة. لابد من تشريعات عقابية تناسب المعمار الجديد، وإلا تحولت العاصمة الجديدة إلى حي المدبح بمصر عتيقة!
الجريدة الرسمية