رئيس التحرير
عصام كامل

فن إهدار الخبرات والطاقات!


لا أعرف سببا لأن يكون الطبيب مديرا لمستشفي أو مركز طبي أو وحدة صحية، وهو لا علم له بعلوم الإدارة أو لديه سابقة خبرة في إدارة عمل بكل تعقيداته الروتينية ودورة مستنداته الجهنمية التي تكون عصية على المتخصصين، خصوصا وأن إدارة أي منشأة واحدة في بلدنا تحكمها عشرات القوانين واللوائح والقرارات والتعليمات، وغالبا ما تكون المشكلة الواحدة لها أكثر من حل يبدأ معقدا وينتهي سهلا، وفي الطريق تتفتح أبواب الفساد، والمدير الطبيب غالبا لا يعرف ولا يعلم دهاليز الروتين والبيروقراطية، فهو دائما تحت رحمة موظف كبير أو صغير يعمل تحت إدارته يوجهه كيف يشاء، ويجعله يوافق على ما يريد وقت يريد!


ولا أعرف منطقا لأن يكون المدرس المعلم- الذي وصل إلى مستوى متميز من الخبرة في التدريس وشرح المنهج المتخصص فيه بكفاءة وقدرة عالية– ناظرا أو مديرا لمدرسة فيترك جدوله وساحة عمله ويهدر خبرته وكفاءته ليتحول إلى ناظر مدرسة يشرف على طوابير الصباح وتحية العلم وترتيب جداول الحصص وكشوف الحضور والانصراف ومتابعة الغياب!

ولا أعرف الحكمة من أن يترك القاضي منصته العالية ويتخلي عن تحقيق العدل بالقسط والنظر في قضايا الناس ورد الحقوق لأصحابهم والضرب بيد القانون على الفاسدين والمجرمين والخارجين عليه في كل مجال لتحقيق العدل والقصاص من المعتدين على حقوق الغير!

في مستشفياتنا الحكومية بكل أنواعها التابعة لوزارة الصحة والتعليم العالي والمؤسسة العلاجية وغيرها مما لا أعرفه الكثير من مظاهر الإهمال والتسيب والفساد بكل ما تعنيه الكلمات من معان، بسبب سوء الإدارة أو فشلها، لأن من يدير المنظومة طبيب لا علاقة له بالإدارة أو فنونها أو دهاليزها!

وفي مدارسنا نتحدث عن نقص في المعلمين في أماكن كثيرة، ونطالب بمزيد من تعيينات معلمين بلا خبرة ولا كفاءة، وفي الإدارات التعليمية ما هو زائد عن الحد من موظفين بلا عمل، ومع ذلك يترك المعلمون الأكفاء وأصحاب الخبرة فصول الدراسة ليجلسوا خلف مكاتب النظار والمديرين فتتعطل الخبرة وتضيع مع ركود الوظيفة!

وفي المحاكم نتحدث عن بطء التقاضي، وعن ازدحام (الرول) بعدد القضايا المطلوب نظرها في الجلسة الواحدة، وعن قلة عدد الدوائر، ومع ذلك يترك القضاة منصاتهم ليجلسوا خلف مكاتب يتابعون أعمالا إدارية لا يفقهون فيها شيئا، وليس لديهم خبرة أكثر من إدارة جلسة بها ثلاثة قضاة لا أكثر.. فيغرق صاحب المقام الرفيع في تفاصيل التعيينات والتوقيع على الجزاءات، ومتابعة الجلسات وينسي بحكم عمله اليومي الجديد القانون وكتابة حيثيات الأحكام، وربما القدرة على متابعة تنشيط عقله القانوني، وحتى وإن عاد إلى منصته بعد عدد من السنوات لا يعود بكفاءته السابقة!

الطبيب درس علوم الطب ليداوي المرضي بإذن الله.. مكانه الطبيعي مع مريضه على سرير المرض يفحص ويكتب العلاج أو يجري الجراحة ليخفف الألم ويعالج الداء، والمدرس المعلم مكانه في الفصل الدراسي ومع تلاميذه يشرح ويناقش ويعلم ويربي أيضا، والقاضي درس القانون وثبر غوره ليدرس القضية ويفصلها، ويرد الحقوق لأصحابها بأحكام تتفق والقانون الذي تعلمه!

الطبيب والمدرس المعلم والقاضي وغيرهم تعلموا وتخصصوا كل في مهنته.. لم يدرس أحد منهم علوم الإدارة، لذلك لا يمكن أن يعمل المعلم طبيبا أو قاضيا ولا يعمل القاضي طبيبا أو معلما، ولا يعمل الطبيب قاضيا أو معلما !

مشكلتنا في الإدارة هي غياب التخصص في كثير من الأعمال، وغياب ثقافة التخصص تؤدي إلى كثير من المشكلات وتخلق العديد من الأزمات، والأخطر هو اللجوء للحلول السهلة.. تعيينات بلا وظائف، ووظائف بلا تخصص، وفي الوقت نفسه كليات الجامعة تضخ كل سنة في السوق الآلاف ممن درسوا علوم الإدارة ليتحولوا إلى عاطلين.. وعلي رأي المثل (إدي العيش لخبازه ولو يأكل نصه!)

الجريدة الرسمية