رئيس التحرير
عصام كامل

لماذا نكره الأطباء؟


أصبحت مصر في السنوات الأخيرة هي أخطر مكان على الأطباء بين كل دول العالم. 

فقد تعدت معاناة الأطباء فيها مجرد ظروف صعبة في العمل، وأجور ضئيلة تكاد تجعل عملهم كالسخرة بلا أجر، إلى مخاطر على صحتهم وحياتهم، مع عدم توافر الحماية لهم سواء ضد مخاطر مهنتهم العادية وأهمها العدوى أو ضد الاعتداءات اللفظية والجسدية عليهم في أماكن عملهم من بعض مرتادي أماكن تقديم الخدمة الصحية.

 وتعدى الأمر إلى امتداد الخطورة لتهدد أسرهم وذويهم بعدما زادت مؤخرا إمكانية حبس الأطباء احتياطيا مع أي شكوى من مريض لم يرض عن نتائج العلاج.

 وانتشرت في مصر ثقافة كراهية الأطباء بعد سنوات طوال من إهمال الدولة لتوعية المجتمع بدورهم وتعريفه بمهنتهم واحتياجاتها ومخاطرها، وتبنى الإعلام على مدار هذه السنوات سياسة واضحة وهي تحميل الأطباء كل نتائج تدهور المنظومة الصحية، وإثارة المجتمع ضدهم، فتارة هم المهملون قتلة المرضى، وتارة هم الجشعون المستغلون المغالون في مقابل خدماتهم، وتارة هم غير الأكفاء وغير المدربين وغير المؤتمنين على أرواح المرضى.

وصارت مصر أكبر بلد طاردة للأطباء في العالم فغادرها أكثر من نصف عدد أطبائها بينما يتطلع أغلبية الباقين إلى ذلك ويجتهدون في البحث عن أي فرصة للعمل خارجها. 

ولم تكن حادثة أسيوط الأخيرة سوى القشة التي قصمت ظهر البعير، فمعها بلغ السيل الربى وأطلت كافة الظروف غير الآدمية التي يعمل بها الأطباء بوجهها القبيح لترسم صورة مجردة لوضع الطبيب المصرى في بلده التي يعشقها.

 فكل طبيب مصرى كان يوما طالبا متفوقا بين أقرانه طوال مراحل تعليمه وقاده حلمه وثقافة مجتمعه الخاطئة إلى التوجه لدراسة الطب أملا في مستقبل زاهر وحياة رغدة ومكانة أدبية كانت يوما للأطباء في المجتمع حتى تكسرت أحلامه على صخور الواقع المر، مع راتب هزيل لا يكفى لبند واحد من بنود متطلبات الحياة الآدمية واعتداءات متكررة لفظية وبدنية أثناء عمله دون حماية أو رادع واتهامات مجتمعية رسخها الإعلام بالجهل والإهمال وحياة لا آدمية يستوجب عليه فيها العمل آناء الليل وأطراف النهار، تاركا أهله وذويه وحياة الشباب حاملا حقيبة ملابسه على كتفه متنقلا بين عدة أماكن للعمل يوصل الليل بالنهار في محاولة لسد جوع أبنائه والصرف على متطلبات تعليمه التخصصى إن كان من الأقلاء المحظوظين الذين توفر لهم ذلك التعليم. 

وبعد ذلك كله سيف مسلط على رقبته وعائلته اسمه السجن حال تقدم أي مريض أقنعه محام للتعويضات بشكوى يستهدف فيها إجبار الطبيب على دفع أموال طائلة بزعم الإهمال.

طفلة صغيرها عمرها تسع سنوات تعرضت لحادث نتج عنه كسر في الساعد الأيمن وتم حملها فورا إلى قسم الطوارئ بمستشفى أسيوط الجامعى لتلقى العلاج حيث تم تحضيرها على الفور لإجراء جراحة عاجلة لرد وتثبيت الكسر تحت مخدر عام.

لاحظ الأطباء أثناء الجراحة وجود تيبس في جميع أنحاء جسم الطفلة وتمت مراجعة كافة الوظائف الحيوية التي أظهرت ارتفاعا في درجة الحرارة وزيادة ضربات القلب وكافة أعراض ما يسمى بالحمى الخبيثة وهو نوع نادر جدا من الحمى يصيب بعض الناس نتيجة لوجود مشكلات في جميع خلايا الجسم تتعلق بالتمثيل الغذائى لأملاح الكالسيوم بالجسم، ويستحيل تشخيصه قبل الجراحة ويؤدي إلى اضطراب شديد بكافة أعضاء الجسم، ولا يوجد له علاج في مصر، وحتى العلاج الموجود بالخارج لا يستطيع إنقاذ كل الحالات.

تم نقل المريضة على الفور للرعاية المركزة واتخذت معها كل طرق العلاج المتوافرة أملا في إنقاذ حياتها إلا أن إرادة الله كانت أقوى من كل شئ. 

ومع صدمة أهل الطفلة وإنعدام الوعى ووجود مستفيدين من رفع دعوى اتهام بالإهمال تم حبس ثلاثة أطباء شبان من بينهم طبيبتين احتياطيا على ذمة الدعوى وتوجيه تهمة القتل لهم لأنهم كانوا متواجدين في مكان عملهم ليلا وحاولوا مساعدة مريضة مما أصابها، ثم حاولوا إنقاذ حياتها من مرضها النادر بكافة الوسائل المتاحة.

أحدهم مدرس مساعد يعمل بلا أجر في المستشفى الجامعى إضافة لعمله بكلية الطب، وطبيبتان تعملان 350 ساعة شهريا بأجر خمسة جنيهات في الساعة كطبيب مقيم للتخدير.

فجر ما حدث بركان الغضب في صدور كل طبيب ممارس للمهنة أحس أنه وعائلته مهددين في مستقبلهم مع كل مريض يعالجه. وكانت ملحمة أبطالها أطباء مصر وفى مقدمتهم أطباء أسيوط ونقيبهم وكان التحرك على كل المستويات الرسمية والشعبية للإفراج عن الأطباء، ولم يكن اقتناع الأهل كافيا لإنهاء الدعوى حين أصر محاميهم على ضرورة الحصول على عشرات الآلاف من الجنيهات قبل التنازل عن الدعوى، وتشارك كل الأطباء في جمعها لإنقاذ زملائهم.

 المجتمع المصرى أصبح غير عابئ مما يصيبه من هجرة الأطباء المصريين الذين يثبتون كفاءة ويتلقون كل تقدير مادى واحترام أدبى في كافة الدول التي يذهبون إليها عربية أو غربية مما يظهر بوضوح كذب الإتهامات الموجهة إليهم، ويدعونا للبحث بموضوعية عن الأسباب الحقيقية للخلل في المنظومة الصحية، والعمل على حلها بدلا من الهروب، وتحميل الأطباء أوزارها.

إن استمرار الأوضاع الكارثية للأطباء في مصر لن يؤدي إلا إلى مزيد من التدمير للمنظومة الصحية المتردية، ولن يؤدى استمرار تهديد الأطباء بالحبس مع أي شكوى ضدهم لن يؤدى إلا إلى تجنب الأطباء لأي مسئولية، ومخاطر مع علاج الحالات الصعبة والطارئة ولن يعود ذلك إلا بالسلب على حياة المرضى.

وقد سبقتنا دول العالم المتقدمة إلى التفرقة بين المخالفات القانونية التي قد يرتكبها بعض الأطباء ويجرمها القانون وبين الأخطاء والمضاعفات التي قد تحدث داخل المستشفيات، حتى لو أعتبرت أحد أسباب وفاة مريض.

وسجلت دراسة أجريت في الولايات المتحدة حدوث ما يقارب نصف مليون حالة وفاة سنويا من هذا النوع في مستشفيات الولايات المتحدة وحدها، إلا أنه حرصا على حياة المرضى وخوفا من تجنب الأطباء مساعدتهم خوفا من نتائج العلاج فقد استقرت القوانين في تلك الدول إلى منع اتهام الطبيب بالقتل إذا توفى المريض أثناء محاولات إنقاذه وأن المسئولية الطبية تقع بالأساس على المستشفى مقدمة الخدمة وليس الطبيب، وأن المضاعفات واردة الحدوث لا تستوجب التعويض.

أمامنا طريق طويل لإصلاح المنظومة الصحية في مصر، أوله الموضوعية في تقييم أسباب تدهور الخدمة الصحية، وتحميل كل مسئول لمسئوليته، وأوسطه إعادة الكرامة والآدمية لكافة أعضاء الفريق الطبى، وتقدير جهودهم ومخاطر مهنهم وساعات عملهم ماديا وأدبيا وخدميا، وآخره منح الأطباء الإحساس بالأمان المفقود بحمايتهم من أي اعتداءات بدنية أو معنوية، وعدم تحميلهم مسئولية نتائج الخدمة الطبية في المستشفيات، ومنع حبسهم في حال حدوث مضاعفات مرضية أو أخطاء بشرية لا يمكن تجنبها.
الجريدة الرسمية