القضية «23».. السينما اللبنانية الممتعة
لعلك أحد هؤلاء المحبين للسينما، تتابع الأفلام المصرية في الأعياد وتتابع الأفلام الأمريكية على مواقع الفيديوهات والأفلام، كثيرون هم المحبون للسينما في مصر والذين تنصب اهتماماتهم السينمائية حول مصر وأمريكا فقط، وقليلون هم من يتابعون أعمال من دول أخرى، ربما سيفاجأ أصحاب النوعية الأولى إذا ما شاهدوا بعض الأفلام اللبنانية أو التونسية أو الفرنسية أو الإيطالية أو حتى الروسية.
هناك أرض فنية أخرى لم تطأها قدمك حتى الآن، ربما تخاف من المجازفة والمخاطرة في تضييع وقتك في أفلام لن تنول إعجابك، ولكن دعني أنصحك بأن لا تعتمد على جنسية الفيلم في تقييمه، فكم فيلمًا أمريكيًا أو مصريًا شاهدته وندمت بعدها على تضييع وقتك فيه، كذلك ستفاجأ حينما تشاهد أفلام من جنسية أخرى تنول إعجابك وتكتشف أنك حرمت عينك وسمعك وحواسك كلها من الاستمتاع بأعمال فنية مبدعة، تتفوق في تنفيذها على أفلام هوليود.
أحد تلك الأفلام التي ستحب مشاهدتها ولن تندم أبدًا هو الفيلم اللبناني "القضية 23" للمخرج زيادة دويري، الفائز بجائزة أفضل ممثل في مهرجان فينيسيا، وجائزة نجمة الجونة الفضية في مهرجان الجونة، والذي تدور قصته حول مشادة حدثت بين لبناني ينتمي لتيار سمير جعجع الرافض للوجود الفلسطيني في لبنان، وآخر فلسطيني يعمل كمهندس ويعيش في أحد المخيمات، وأثناء عمل الفلسطيني تحت منزل اللبناني تحدث بينهما، فيقوم الفلسطيني بسب اللبناني، الأمر كان يمكن أن ينتهي إذا اعتذر الأخير عن الأمر، ولكن الأمر وصل للمحكمة بسبب الصراع بينهما.
الفيلم لا يمثل قصة لمدة ساعة ونصف الساعة تخرج منها سعيدًا، ولكنه يلخص حال المجتمع اللبناني الذي يعاني من الاضطهاد الطائفي والسياسي والاجتماعي، حيث يتعرض الفيلم لإيضاح الاختلاف الكبير داخل المجتمع اللبناني الذي يشهد وجود صراعات داخلية بسبب وجود تيارات سياسية دينية مختلفة، ويعرض كم الكراهية الموجود بين تلك الطوائف والأحزاب وهو ما يهدد بانفجار المجتمع اللبناني إذا لم يحكم الجميع صوت الحق والعدل.
بعيدًا عن القصة المتكاملة التي أخذ عليها إغفال مذابح الجيش اللبناني في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في حين تعرض الفيلم لإبراز المذابح التي قام بها بعض الأحزاب اللبنانية بمعاونة بعض الفصائل الفلسطينية، بعيدًا عن ذلك فالفيلم أبدع أيضًا في اختيار أماكن التصوير التي تعبر عن المجتمع اللبناني، وإبراز المعاناة التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيين، وكذلك أبناء البلد اللبنانيين على حد سواء.
فالمخرج زياد دويري الذي كتب الفيلم برفقة زوجته اختار مهنة الرجل اللبناني كميكانيكي سيارات والفلسطيني كمهندس مدني، فالقصة التي بني عليها الفيلم حقيقية وحدثت بين المخرج وأحد المهندسين الفلسطينيين، ولكنه استبدل نفسه بميكانيكي سيارات ليعرض واقع وطبيعة المواطن اللبناني العادي وكم المعاناة التي يعيشها في حياته اليومية في سياق القصة الأساسية للعمل، بجانب إيضاح المعاناة التي يعيشها الفلسطيني على الرغم من أنه مهندس، ولكن كونه لاجئًا فهو يعاني كثيرًا في حياته اليومية لتوفير حياة كريمة.
ويعرف الكثيرون في مصر اسم عادل كرم الممثل اللبناني، وربما يعلم البعض عنه أنه مذيع فقط من خلال بعض المقاطع الشهيرة له على اليوتيوب، ولكنه ممثل لبناني محترف، قدم دور اللبناني المتغطرس كما لم يقدمه أحد من قبله، ردود أفعاله وتعبيرات وجهه وحركاته وحتى نظراته، تمكن من كل الأدوات المتاحة له في الفيلم ليقدم دور هو الأفضل له في مسيرته الفنية، أما غريمه الفلسطيني فقدمه "كامل الباشا" الذي فاز بجائزة أحسن ممثل في مهرجان فينيسيا عن دوره في الفيلم، ربما تفوق عليه عادل كرم في بعض المشاهد، ولكن الباشا أبدع هو الآخر في تقديم صورة جديدة للرجل عفيف النفس المقهور والمغلوب على أمره، تعبيرات وجهه الصامت كانت كفيلة بتوصيل رسائله لكل من حوله، أبدع في استخدام كل شيء، حتى في استخدام صمته.
الترتيب التاريخي لعرض بعض المجازر في الفيلم لم يكن موفقًا، وكذلك كما أشرنا تغاضي الفيلم عن عرض وجهة النظر الأخرى بإيضاح المذابح التي ارتكبها الجيش اللبناني في حق اللاجئين الفلسطينيين، وركز على توضيح المجازر التي ارتكبتها بعض الفصائل اللبنانية بمعاونة بعض الفصائل الفلسطينية في حق بعض القرى اللبنانية، فتوضيح سبب كره بعض اللبنانيين للوجود الفلسطيني على أراضيهم، ولكن في النهاية كانت الرسالة واضحة بأن الطرفين مخطئين، وعلى كل طرف أن يراجع نفسه وينظر لأخطائه ولا ينظر لأخطاء الآخرين فقط.
"القضية 23" من أفضل الأفلام العربية في العام الحالي إن لم يكن أفضلها، وهو مؤشر على تفوق السينما اللبنانية وتطورها، ربما بمرحلة أفضل مما نرى عليها مستوى الأفلام المصرية في الوقت الحالي، والتي أصبحت تعتمد إما على الإبهار العيني فقط بغض النظر عن المنطقية أو على الكوميديا، فها هو الفيلم اللبناني يعطي لنا درسًا في تقديم فيلم متكامل من حيث القصة والإخراج واختيار الممثلين والأداء التمثيلي واختيار أماكن التصوير وغيرها.. إذا أتتك فرصة مشاهدة هذا الفيلم.. فلا تتردد.