العميد محمد عبد المنعم أحد أبطال العبور: الدبابات الإسرائيلية هربت ليلا.. وصرخ قائد إحداها: «عايز أعيش»
* مهمتي وقت العبور كانت حماية جبل مريم من احتلال اليهود
* تمكنت أنا وفصيلتي من التحرك شرق القناة والاشتباك مع العدو
مهما كتبنا من قصص لن نعطي الأبطال الذين سجلوا بطولات حقيقية حقهم، ولكننا نحاول أن تكون كتاباتنا سجلا لبطولات المقاتل المصري، الذي حقق المعجزات في السادس من أكتوبر بعبوره لقناة السويس، وتحطيمه خط بارليف، والقضاء على أسطورة العدو الذي لا يقهر.
العميد محمد عبد المنعم يوسف، أحد أبطال حرب أكتوبر، وكان وقتها برتبة ملازم، وقائد الفصيلة الثالثة "السرية الأولى من الكتيبة 335 مشاة.. لواء النصر.. الفرقة 16 مشاة".. يروي جانبا من دفتر الفخر والعزة، قائلًا: تخرجت في الكلية الحربية يوم 30 مارس 72.. الدفعة61.. وأخذت يوما إجازة، وبعدها تم توزيعي مباشرة في الخط الأمامي للجبهة، وتحديدا جبل مريم الذي يكشف تماما النقطة الإسرائيلية القوية أمام "المعدية نمرة 6" بالإسماعيلية، وكان وقتها عرض القناة 200، وخط بارليف كله مكشوفًا لنا تماما، وكانت أمامي نقطة ملاحظة إسرائيلية تأتي في أول ضوء، وتنصرف مع آخر ضوء يوميا، وكان كل شيء عاديا في الموقع الذي كنا نقوم بحمايته، والدفاع عنه، وهو عبارة عن جبل عال، يسمى جبل مريم، يتوسطه النصب التذكاري للجندي المجهول، بجوار بحيرة التمساح، جنوب مدينة الإسماعيلية، وكان هذا الموقع بمثابة نقطة ملاحظة على الضفة الغربية لقناة السويس، وكان يكشف الجزء الأكبر من أرض سيناء الحبيبة، التي كنا نتطلع إليها باستمرار، وكانت صدورنا تنشرح لرؤياها، وفى نفس الوقت كنا دائما في لهفة إلى العبور إليها، وإرواء ظمأنا المتعطش إليها باستمرار، مهما كان يكلفنا، ومهما قدمنا من تضحيات، لأننا على علم ويقين بأننا أول من سيضع أقدامه على هذه الأرض الجريحة، وذلك بحكم جوارنا القريب جدا منها، وكأنها في كل يوم من مشرق الشمس إلى غروبها تنادينا ليل نهار، بأن نقوم ونزيح عنها ستار الاحتلال، الذي ربض على أرضها طوال عدة سنوات، تئن تحت وطأة الاحتلال الذي ينشئ فيها القلاع والحصون التي تصور أنها ستكون حاجزا عن العبور إليها، وفى كل يوم كان يأتى تغيير على بطاحها العزيزة، وكأن الأرض تصرخ ويدوي صراخها بصيحات الإنقاذ مثل الغريق الذي يتلهف الإنقاذ والنجاة.
• متى وكيف تلقيت خبر العبور؟
كنا نقوم بتدريبات شاقة على احتلال الجبل وصعوده وتحريره طوال عام كامل، حتى أن كل جندي كان يتمنى أن يصدر إليه أمر ولو منفردا، ليقوم بعمل عظيم تجاه هذه البقعة العزيزة التي سالت عليها دماء إخواننا الشهداء في معارك 1967، واختلطت برمال سيناء الحبيبة، وأبت ألا يطهرها إلا إخوانهم في الجهاد، وهم زهرة شباب الوطن وخيرة رجاله.. وأخيرا حانت لحظة النصر.. ساعة الصفر.. وقام قائد الكتيبة بجمعنا الساعة 12 ظهرا، وأوكل إلينا مهام تأمين الجبل وحراسته حتى يتم العبور، وكان كل جندي وضابط يعرف مكانه ومهمته بالتحديد، وتم نفخ القوارب المطاطية في الحفر التي كنا نخبئها فيها، وقمنا بالتمويه بأوراق الشجر، وبعد موجات العبور عبرت أنا مع قائدي المقدم ماجد محمد ماجد، الساعة الرابعة فجرًا، وتم نصب رءوس الكباري، وعبر الأفراد والدبابات بالكامل.. ويوم 7 أخذنا في التقدم نحو المحور الأوسط بسيناء، وكنت شديد الفرح برؤيتي للأسرى الإسرائيليين أثناء اقتيادهم لمعسكرات الأسرى، وهم يرفعون أياديهم التي تلطخت بدماء شهدائنا الأبرياء من قبل، وكنا على يقين أنه مهما طوى الزمن من صفحات، ومهما طال الأمد، سيأتي يوم التحرير ويوم العبور ويوم الخلاص ويوم الثأر.. كان هذا شعور وشعار كل جندي وكل ضابط جاء إلى خط المواجهة مع هذا العدو الغادر. لقد كان الدم يغلي في عروقنا، وينتفض من هول ما كنا نراه على الضفة الشرقية لقناة السويس، والعدو الغادر الخسيس يعربد عليها ويلهو باستهتار، ولا يعرف أن لهذه الأرض أصحابًا يتحرقون شوقا إليها.. ولأننا مؤمنون بأن يوم العبور لابد منه كنا نقبل على التدريب بحماس ونستوعب الأسلحة الجديدة، ونؤمن بأن كل ذلك هو الطريق الشاق الطويل الذي رسمه قادتنا وخططوا له لتحقيق يوم العبور العظيم.
ماذا عن أغلى الذكريات التي لا تنساها أبدا بعد العبور؟
بعد العبور كان أصعب يوم مر علينا هو 8 أكتوبر، عندما قمنا بتطوير الهجوم، واحتللنا تبة، فحاصرنا العدو من اليمين والشمال، ودارت بيننا معركة وجها لوجه لأول مرة، استشهد فيها منا عدد كبير، وحققنا خسائر كبيرة في العدو، سواء من الأفراد أو المعدات، وعندما حل الليل هربت باقي الدبابات، ولكن كانت هناك دبابة واحدة قطع جنزيرها في المعركة، فصعد قائدها وأخذ يطلق النار بصورة عشوائية من رشاشه الشخصي، فأصاب عددا من جنودي فتناولت صاروخ "بازوكا"، وصوبته عليه فقفز، واحترقت دبابته وأخذ يردد باللغة العربية: "أنا مش عاوز أموت.. أنا عاوز أعيش"، لكن الجنود قتلوه انتقاما لزملائهم الذين سقطوا بطلقات الرشاش.
أما الموقف الذي لا أنساه أبدا فقد حدث لأحد جنودي، كنت أحبه جدا واسمه عبد العال.. كانت الطائرات الإسرائيلية تضرب علينا من ارتفاعات كبيرة، ولا نراها لأنها كانت تخاف من الصواريخ المضادة للطائرات وأجهزة الدفاع الجوي، ويوم 21 أكتوبر اشتد الضرب علينا فاختبأنا في حفر برميلية لتفادي دانات الطائرات، وكان عبد العال يجلس مع أحد زملائه بحفرة، وفجأة وجدناه يخرج من الحفرة ويتجه إلى أخرى وحده، وبعد لحظات سقطت دانة مباشرة في حفرته التي انتقل إليها واستشهد، وكأن الدانة مكتوب عليها اسمه وحده ومقدر لزميله أن يعيش.. هناك العديد من القصص البطولية لجنود وضباط شاركوا في معارك كبيرة بأكتوبر ولم يكتب عنها أحد، فحرب أكتوبر مهما كتب عنها لن تكفي موسوعات كبيرة لاستيعاب مدى بسالة الجندي المصري في العبور وتحقيق النصر.
الحوار منقول بتصرف عن النسخة الورقية لـ "فيتو"