رئيس التحرير
عصام كامل

اللواء وصفي بشارة في ذكرى نصر أكتوبر: الطيارون استهدفوا الثأر في الحرب لأنهم تعرضوا للظلم مرتين

فيتو

* إسرائيل ضربت الطائرات ولم تهزم الطيارين
* بنات الشرقية والسنبلاوين وأبو حماد سجلن أروع البطولات بالعمل تحت القصف في بناء حائط الصواريخ

* هزيمة 67 كانت السبب الذي أعاد بناء القوات المسلحة على أسس علمية متقدمة


أسرار جديدة ومثيرة يرويها اللواء وصفي بشارة قليني، أحد أبطال حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر.. في حواره لـ "فيتو"، يكشف اللواء بشارة أن هزيمة 67 كانت شديدة القسوة، خصوصا علينا كطيارين، لأننا تعرضنا لظلم كبير من القيادة والشعب، برغم أن السبب في الهزيمة هو القرار الفردي الخاطئ من القيادة السياسية وقتها بتلقي الضربة الأولى.

ويضيف، في حواره بمناسبة ذكرى انتصارات أكتوبر: إن طائراتنا كانت مصطفة على الأرض بدون حماية أو هناجر أو دشم، فأصبحت صيدا سهلا للعدو الذي فاجأنا بطائراته على ارتفاعات منخفضة لم تظهر على شاشات الرادارات الأرضية المصرية، وإلى نص الحوار:



• ماذا عن بداية رحلتك بالقوات الجوية؟
- تخرجت في يناير 65 من الكلية الجوية، ثم التحقت بأسراب مقاتلات "الميج 21"، وأتممت جميع تدريبات الطيران في هذا السرب، وأصبحت طيارا مقاتلا، ولكن للأسف لم أحارب وطائرتي "انضربت" على الأرض، بسبب القرار السياسي الخاطئ الذي أصدرته القيادة بأن نتلقى الضربة الأولى، ولم تحسب الأمور جيدا، ولم تدرس قوتها الجوية جيدا؛ الأمر الذي كلفنا خسارة 90% من طائراتنا على الأرض.. وكان الفريق صدقي محمود، قائد القوات الجوية وقتها، قد طلب قبل النكسة من المشير عامر وقيادات الجيش إنشاء دشم للطائرات وهناجر لحمايتها من الهجمات الجوية، ولكنهم لم يردوا عليه.. التصريحات وقتها كانت تؤكد أننا نمتلك قوة تمكننا من إلقاء إسرائيل في البحر، ولكن سرعان ما اكتشفنا العكس عندما هاجمتنا إسرائيل بطائرات أحدث من طائراتنا وقصفتنا على الأرض في غفلة من الزمن.


* حدثنا عن وضع القوات الجوية يوم 5 يونيو كشاهد عيان؟
- الكل ظلم الطيارين وقتها، وقالوا إنهم كانوا سهرانين حتى الصباح، ولم يكن هناك طيارون في المطارات أو على الطائرات، وهذا الاتهام عار تماما من الصحة، والتشكيلات كلها كانت في حالة تأهب بالحالة "أ"، وتعني أن يكون الطيار مربوطا في الطائرة وأمامه 6 دقائق للإقلاع عندما يأتيه الأمر بالاشتباك وأنا كنت ضمن التشكيل الذي يقف على أول الممر، على استعداد للإقلاع في 3 دقائق، ولكن ما حدث هو دخول الطائرات الإسرائيلية من البحر المتوسط، بدلا من الاتجاه الغربي وسيناء، وكانت على ارتفاعات منخفضة فلم تسجلها الرادارات الأرضية، وبدأت بضرب المطارات وممرات الإقلاع، لتشل حركة الطيارين وتمنعهم من الطيران، ثم جاءت الموجة الثانية وقصفت الطائرات بدون إنذار.. وقد أصيبت طائرتي ولكني لم أصب وقتها، وهذا هو الذي تسبب في تكبدنا خسائر كبيرة..


 أما الطيارون فلماذا ظلموا ولم يحاربوا؟! لأن الطبيعي أن تلتقط الرادارات الأهداف المعادية، وتبلغ بها برج المراقبة الذي يقوم بدوره بوضع إحداثيات للأهداف المعادية، وعددها وموقعها، ويقوم بضرب جرس الإنذار.. فنقوم نحن الطيارين بإدارة الطائرات والإقلاع بها تجاه الهدف والاشتباك معه.. هذا لم يحدث يومها، لأن الرادارات لم تلتقط الأهداف العادية ولم يضرب الإنذار، ووجدنا الطائرات فوقنا وضربت الممرات.. حتى الطائرات التي لم تضرب لا يمكن أن تطير وتحارب، لأنها ستحترق على الأرض قبل صعودها لعدم وجود ممر صالح.. 


ورغم ذلك كانت هناك بطولات فردية حاول فيها عدد من الطيارين عمل المستحيل وأسقطوا طائرات إسرائيلية، مثل الطيار نبيل شكري والمقدم سامي فؤاد الذي أسقط طائرة واستشهد يومها، وغيرهما في المطارات المختلفة.. ورغم عدم إصابتي يومها فإن هذا اليوم ولَّد بداخلي رغبة الانتقام من العدو، الذي باغتنا في غفلة من الزمن، واحتل جزءًا غاليًا من أرضنا، ورغم تدميره للطائرات أو المطارات لم يتمكن العدو من تحقيق هدفه بالنصر على القوات الجوية، فيومها ضرب الطائرات ولم يضرب الطيارين الذين سرعان ما استعدوا للثأر.


* كيف استعادت القوات الجوية قوتها بعد تدمير الطائرات والمطارات؟
- في اليوم الثاني للهزيمة ذهبنا، بناء على اتصال من عبدالناصر، إلى الرئيس الجزائري "هواري بومدين" في الجزائر، الذي أمدنا بأسطول من طائرات "الميج 21"، بالإضافة إلى الجسر الجوي الذي فتحه لنا الاتحاد السوفيتي، وأرسل لنا طائرات مفككة، قمنا بتجميعها في مصانعنا، لأن الروس وقتها شعروا أن سلاحهم هزم أمام السلاح الغربي، فبدءوا بإعطائنا أسلحة حديثة وصنعوا لنا طائرات تصلح للأخذ بثأرنا، وبدأنا نلملم شتاتنا، وكنا نحو 60 طيارًا فقط هم من تبقى، والباقي أصيب أو استشهد، وقمنا بتكوين مجموعتين في أنشاص والمنصورة، وبعد 40 يوما فقط من الهزيمة خططنا للقيام بعملية موجعة في قلب إسرائيل، وقمنا بعمل هجوم يومي 14و15 يوليو داخل سيناء، وقصفنا احتياطات العدو من الذخيرة والجنود والمعدات، وذلك صدم العدو لأن القوات الجوية المصرية التي ادعوا القضاء عليها، قامت من كبوتها وضربتهم في العمق وتسببت في خسائر لم يكونوا يحلمون أن تحدث لهم.. وكأنهم في كابوس منذ ذلك الوقت حتى حرب أكتوبر المجيدة.. 


وهذا العمل رفع الروح المعنوية لدى شباب الطيارين ورجال القوات المسلحة، وفتح الباب لعمليات إقلاع وإبرار لقوات الصاعقة خلف خطوط العدو، للقيام بعمليات ضد الأهداف ومخازن السلاح وتجمعات القوات الإسرائيلية في الشرق.


• أهم البطولات التي قمت بها في حرب الاستنزاف؟
- لا أنسى أول اشتباك مع طائرات الفانتوم الإسرائيلية، التي كانت تعد أحدث طائرة في العالم وقتها.. هذا اليوم كان في سبتمر 69.. كنت أنا والطيار سمير عزيز نطير على ارتفاع منخفض قرب القناة، وخرجت طائرة فانتوم لاعتراضنا فتسابقنا أنا وسمير لضربها، وسبقني هو بضربها بصاروخ فوقعت وضربتها أنا بصاروخ آخر فهوت في بحيرة قارون، واختفت تماما من على شاشات الرادار، وعندما عدنا إلى المطار أنكر الروس الواقعة، لأنها كانت أول اشتباك بين طائرات "الميج 21" والفانتوم الشبح، ولم يكن هناك دليل على سقوطها، وظللنا نبحث عنها في البحيرة لمدة أيام، ولم نجد لها أثرا، وهذا جعل الروس يصرون على عدم سقوطها، وبعد 20 يوما من الواقعة المد والجزر أظهر جزءًا من ذيل الطائرة وشاهدها بعض الصيادين، وأبلغوا عن مشاهدتهم شيئا غريبا، وعلى الفور ذهبنا أنا وسمير عزيز مع فريق البحث، واستخرجنا حطام الفانتوم، والطريف في الموضوع أن الأهالي عندما وضعناها على الونش قاموا بعمل زفة بالطبل والزغاريد، وكأننا وجدنا كنزًا.. 


كانت الفرحة لا تسعنا بهذا النصر، وقام الروس بأخذ الطائرة معهم لكي يحللوها، وحصلت وقتها على مكافأة 2000 جنيه من الفريق محمد فوزي، وزير الحربية آنذاك، بدلا من 500 جنيه يحصل عليها أي طيار كمكافأة لإسقاطه طائرة من طائرات العدو.


• كيف كان الاستعداد للنصر في القوات الجوية التي كانت مفاجأة حرب أكتوبر؟
- بدأنا ندرب الطيارين الجدد على الطائرات الحديثة، استعدادا للحرب بتدريبات شاقة على مسرح العمليات نفسه، لأننا لم نكن نملك ذخيرة تكفي التدريب والقتال، فكنا ندربهم على العمليات مباشرة.. وفي الحقيقة كان هناك استعداد من الطيارين الجدد للتضحية بأنفسهم من أجل النصر؛ فقد وصلت خسائر الطيارين الذين استشهدوا في عمليات التدريب بين عامي 69 و70 نحو 40 طيارا، ومع ذلك كانوا يتسابقون لطلعات العمليات فيما بينهم، وكانت الروح المعنوية عالية جدا.


* ما المهام التي كلفت بها في حرب أكتوبر؟
- في بداية عام 73 تمت ترقيتي إلى "قائد ثان" في السرب 49 مقاتلات، والموكل إليه حماية الجزء الجنوبي من الجبهة، وكانت مهمة السرب حماية الطائرات المقاتلة والقاذفة، واشتركنا في الضربة الجوية الأولى التي حققت أهدافها، وكانت خسائرنا يومها 6 طائرات من 270 طائرة، قامت بضرب المطارات والمقرات الإدارية والنقط الحصينة وتدمير مواقع الصواريخ "السكاي هوك"، ومخازن السلاح ومحطات الوقود ومراكز الملاحظة، وبعد الضربة الجوية قمنا بحماية القوات الأرضية للجيش الثالث خلال العبور، واعتراض أي طائرة للعدو ومنعها من الاقتراب لشاطئ القناة أو الموجات الأولى للعبور.. وعندما حدثت الثغرة أسقط السرب 49 وحده، 12 طائرة للعدو، واستشهد منا 3 طيارين.


• ما أهم البطولات التي قام بها طيارون في 73، ولم تنسها حتى الآن؟
-أثناء حرب الاستنزاف اشتبك الطيار إسماعيل إمام مع إحدى طائرات "الميراج" الإسرائيلية، وبالفعل قام إسماعيل بضربها، وانفجرت طائرته، وقفز هو والطيار الإسرائيلي كلُّ من طائرته، ثم استشهد في طلعة أخرى أثناء الحرب.. وفي طلعة أخرى للطيار رضا إسكندر فوق قرية السنبلاوين، وكان من أب سوداني فظنه الأهالي إسرائيليا، وظلوا يضربونه حتى استشهد، ومن البطولات الخالدة لطيارينا أيضا الطيار الشهيد سليمان ضيف الله، أثناء الثغرة قام بحماية الطائرات القاذفة، ورغم إصابة طائرته رفض تركهم حتى قاموا بمهمتهم في الاشتباك، وعادوا سالمين واستشهد عقب اطمئنانه عليهم واكتمال مهمته في حمايته..


 أما التضحية الحقيقية والتي لا تُنسى أبدا فهي للفتيات الصغيرات من قرى الشرقية وأبو حماد والسنبلاوين.. هذه القرى كان أغلب رجالها في الخدمة بالقوات المسلحة، وعندما بدأنا في بناء دشم الطائرات ومواقع الصواريخ كان يحضر للموقع يوميا عشرات الفتيات، أعمارهن تتراوح بين 16 و21 عاما.. يحملن القصعة ويرفعن مواد البناء وراء العمال.. وأثناء قصف إسرائيل لهذه المواقع كانت تسقط البنات شهداء جنبا إلى جنب مع العمال من الرجال؛ فالحرب لم تفرق بين أحد منهم، ورغم سقوط العشرات منهن نجد أنهن في اليوم الثاني يحضرن لاستكمال العمل، وكن عبارة عن خلية نحل في منتهى الحيوية والنشاط، ،هناك العديد من البطولات لا تسعها مئات الكتب وموضوعات الصحف عن قصص وروايات سطرها الجيش والشعب المصري لتحقيق النصر في أكتوبر.

الحوار منقول بتصرف عن النسخة الورقية لـ "فيتو"...
الجريدة الرسمية