رئيس التحرير
عصام كامل

هروب اضطراري


(يا الرَايح وين مسافر تروح تعيّا وتولي.. شحال ندمو العباد الغافلين قبلك وقبلي) وهي بداية أغنية جزائرية لدحمان الحراشي أعاد غناءها "رشيد طه" وتتحدث عن معاناة المهاجر وتنصحه بالبقاء في وطنه بدلًا من السفر، لكنها نصيحة لم تشغل أحد أقاربي الذي ضاقت به سبل الحياة فقرر السفر للعمل في الخليج تاركًا وراءه أطفاله الصغار في محاولة صادقة لصنع مستقبلهم، قبل أن يقف أبناؤه بعد سنوات في المطار انتظارًا لقدوم جثمانه!


تجربة الغربة ثرية تحمل أمنيات أصابتها دموع هؤلاء الذين صدمهم تعارض غروب الوطن مع شروق أعمارهم، ونجد صداها في الشِعر والأدب والسينما والموسيقى، فالبعض تحدث عن الغربة خارج الوطن في رصد لمشاعر الافتراق، وآخرون تحدثوا عن الغربة داخل الوطن في رصد لتراجع القيم الإنسانية لصالح الطابع المادي، حتى تحول المرء إلى غريب وسط أهله، مشغول بالحياة عنهم.

حملت الغربة أيضًا نجومًا أحببناهم ولم يعودوا إلينا إلا في نهاية المشوار، مثلما فعلت السندريلا ببقائها في لندن، وهي المدينة التي لجأ إليها العندليب في محاولة للشفاء قبل أن تصده وتُرجعه إلى بلده صامتًا للأبد عن الغناء.

ورغم توقف صوت عبد الحليم حافظ، إلا أن أصواتًا غيره استمرت في الغناء، ففي التسعينيات اشتهرت أغنية "الغربة" لإسماعيل البلبيسي خاصة المقطع الأول (أنا من البداية يا غربة بتحمل.. وخلاص كفاية صعب إن أنا أكمل).. مثلما استمعنا إلى أغنية "الحدود" لفرقة الأصدقاء (ابتدا شيء ينجرح جوه الوجود.. وابتدينا أسئلة ملهاش ردود).

وعندما غنت أنوشكا ومنير "بلاد طيبة" في التسعينيات وقالوا (يا بلادي ضُميني حضنك بيحميني من الغربة والأيام)، فإن عدوية أكمل حديثهما في الألفينيات عبر أغنية "مسافر" قائلًا (دا فيكي يا بلدي اللي مش عند حد.. دفا وسط عيلة ومشاعر بجد).

ومن الموسيقى إلى السينما، فقد يدفع الأبناء ثمن ابتعاد آبائهم عنهم، فيتحقق حلم الثروة على حساب السعادة المنشودة مثلما تصور فيلم (ثمن الغربة) لعادل أدهم.. لكن رفض السفر قد يكون أحيانًا رفاهية يصعب اختيارها وفلسفة لا يمكن تطبيقها، فأحدهم قبل سفره أخبرني أنه سيشتاق لأسرته لكنه أيضًا عاجز عن إطعامهم بالمشاعر أو الإنفاق عليهم بالعواطف.. وآخر أكد لي أنه ليس سعيدًا بالغربة لكنه مجبور عليها ولا يملك الاختيار.

نضطر أحيانًا للغربة خارج الحدود أو داخلها، وبين الإجبار والاختيار والمقبول والمرفوض، نأمل في الأفضل للوطن مثلما تشتاق أنفسنا للسعادة، والمشاعر الصادقة، وتوقف الدموع.
الجريدة الرسمية