البحث عن رجال دولة
كل من عاش أحداث ٢٥ يناير شاهد عن قرب أكبر عملية فرز في تاريخ مصر، وعانى المصريون من الملل الذي صاحب النخبة الجديدة التي كانت شبه مقررة عليهم تطل عشرات المرات من كل الرسائل الإعلامية بالضجيج والصداع، لدرجة أن بعض القنوات الجديدة وظيفتهم لديها كمذيعين في عملية تبادل للمصالح، فهم يقومون بغسل سمعة أصحاب تلك القنوات في الشارع وعند الائتلافات التي كانت تملأ المشهد السياسي وقتها ومقابل ذلك كان هؤلاء النشطاء يحصدون على عشرات الآلاف من الجنيهات شهريًا، وظنوا أنهم بوجودهم المفروض قد أصبحوا رجال المرحلة، وكان أن عملوا في الإذاعة والصحف والمواقع ورشحوا أنفسهم في البرلمان وكما صعدوا سريعًا اختفوا سريعًا بمنطق أن "الزبد يذهب جفاءً وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض".
ويعرف أيضًا الذين اقتربوا من صناعة القرار أيام فوضى يناير أن أعضاء المجلس العسكري كانوا يعقدون جلسات مطولة مع كل ألوان الطيف السياسي والحزبي والمهني والنقابي والإعلامي والشبابي في مصر، فيما يبدو كمحاولة للفهم أولا ولاكتشاف قيادات جديدة وطنية مؤهلة كوجود جديدة لمرحلة بناء الدولة بعد يناير، وكانوا يسمعون أكثر مما يتكلمون، وفي تلك الأوقات وقفت قيادات القوات المسلحة على حقائق صادمة بعدم وجود رجال دولة مؤهلين لإدارة البلاد سواء في المرحلة الانتقالية أو فيما بعد، ولعل ذلك ما دفع السلطة وقتها إلى التساهل في قيام الأحزاب لعل التجربة تفرز رجال دولة، ولكن الممارسة الحزبية خذلت الجميع، في ظل غياب المدارس التي تنتج الكوادر وتؤهلهم للعمل في دولاب الدولة..
واكتشف الجميع أن كل شعارات الرجل المناسب في المكان المناسب لم تنفذ في أي عصر باستثناءات قليلة، وكانت للتقارير الأمنية القول الفصل في معظم التعيينات، مما جرف الحياة السياسية من القيادات، ولم يعد هناك صف ثاني أو ثالث، وأسهم في تلك الكارثة تأميم الاتحادات الطلابية وتجميد أنشطتها، وبالتالي لم تعد الجامعة كما كانت المفرخة الأولى لاكتشاف القيادات الطبيعية، ولم تعد هي المعمل التي يتمرن فيها الطلاب ويخضعون للتجريب والتصويب، ولعل ذلك ما دفع مؤسسة الرئاسة إلى إنشاء البرنامج الرئاسي للشباب..
غير أنه من الآن وحتى خلق هؤلاء الرجال فإننا في أمس الحاجة لرجال دولة على قدر التحديات، وهو ما يبرر الاستعانة كثيرًا برجال القوات المسلحة في مهام مدنية، وبالمناسبة فليس كل مسئول رجل دولة ولا يستحق اللقب إلا من تتوافر فيه صفات كثيرة في الثقافة والتفاوض والقدرة على توصيل الفكرة ببساطة واحتواء المختلفين قبل المؤيدين، ومن هؤلاء السادات، ومصطفى خليل، وسامي شرف، وعمرو موسى، وأسامة الباز، وصفوت الشريف، وهشام الشريف، ورأفت رضوان، وأبو غزالة، ومحمود رياض، وفؤاد محيي الدين، وبطرس غالي، وإبراهيم نافع، ومكرم محمد أحمد، وفؤاد سراج الدين، ومنصور حسن، ومثل هؤلاء يقومون ببناء مؤسسات الدولة دون ضجيج، وأفعالهم أكثر من أقوالهم، ويظهرون غالبًا في اللحظات الحاسمة لأنهم يحملون رؤية واضحة ويفكرون في بناء الدولة وليس الوصول إلى السلطة واحتكارها، ويفكرون خارج الصندوق وبعيدًا عن القطيع، وهم الذين أسسوا الولايات المتحدة ويطلق عليهم الآباء المؤسسون..
عكس الوضاع لدينا، فالقاعدة ليسوا آباءً ولا مؤسسين؛ لأنهم يعتمدون على خدام الدولة أكثر من رجال الدولة، وعلى الموالين أكثر من المبدعين، ومثل هؤلاء لا يجرؤون على قول حينما يستدعي الأمر معالجة نقدية بحكم تعودهم على الارتماء في أحضان الصمت، والتقهقر إلى الزوايا، ويمسكون العصا من المنتصف، وللاسف هم الذين يحتلون المشهد وطوال الوقت، مرشحون للمناصب العليا..
وخلاصة الأمر عندي أن المرحلة تحتاج رجالا آخرين وهم كثر، وإنما تربيتهم وعلمهم وحياؤهم يمنعهم من عرض أنفسهم وتقديم خدماتهم، حتى لا يصطدموا بتقارير غير منصفة يقوم بها رجال غير مؤهلين لإدارة عائلاتهم وفشلوا في اختيارات شركاء الحياة لكي نطلب منهم ترشيح قيادات ورجال دولة، وتلك هي المصيبة والحل.