مدير إدارة المناضلين.. ناضل علينا بكرة!
أفهم أن يكون المُناضل شخصًا ذا تاريخ طويل عريض، وقدرة على قيادة الملايين مثل الزعيم (سعد زغلول)، يحمل هموم الوطن على كتفيه بعقلانية بلا مُتاجرة، يدفع ثمن مواقفه بالتضييق وقطع الرقبة أحيانًا، يتم نفيه ويرجع بناءً على طلب جموع الشعب، ويلاقي مصر كُلها في استقباله.. واخد بالك؟ جموع طلب الشعب، مش ضغوط مؤسسات مشبوهة، ونشطاء كُل مؤهلاتهم أن صوتهم عالٍ "ومش بيستحموا"، وعددهم الإجمالي أقل من عدد حبات رُبع كيلو جميز!
وقتها يتحوَّل من مُناضل لزعيم، كذلك (نيلسون مانديلا) يقضي عُمره كُله في السجن، ويهنأ قليلًا قبل أن يطير لعالم أفضل والكُل بيحلف بحياته، و(غاندي) كمان لا ننساه، ذلك المُتقشِّف الذي طبَّق التقشُّفف والحرمان على نفسه قبل غيره، هذا هو ما أفهمه في النضال، أما أن يكون لقب مُناضل "مرطرط" على كل رصيف إعلامي وأرصفة وكالة البلح أيضًا والهتاف التقليدي "باتنين ونُص وتعال بُص" وقلِّب في النضال يا باشا قبل ما تشتريه علشان معندناش ترجيع، وخُد لك نضالين تلاتة علشان احتمال يبقى بتلاتة جنيه على آخر الأسبوع، فهذا هو نضال عصرنا المكلوم الحالي!
والحقيقة أننا كمجتمع مسكين ندفع كثيرًا ثمن رطرطة لقب مُناضل على أرصفة العتبة ووكالة البلح وعربات المترو بلا رابط ولا ضابط ولا شُرطة مرافق، وذلك مُنذ سنوات عديدة، حتى صار لقب مُناضل لصيقًا بكُل مَن هَب ودَب، الموظف اللي بيروح يفطر في الشغل ويقعد ساعتين يهزَّر مع زمايله ويعطَّل في مصالح الناس، وبعدين مش لاقي حاجة يعملها آخر النهار يقوم شاريله لقب مُناضل وهو مروَّح علشان يتمنظر بيه قُدام الجيران شوية، والمحامي المغمور أو المُهندس النُص كُم يجري على العتبة يفاصل وياخد لقب مُناضل باتنين وبس بدل اتنين ونُص بعد ما حالته تصعب على البيَّاع، خاصة أن اللقب بيمنحه حصانة، يعني عبارة عن مُحامٍ فاشل ومعه لقب مُناضل، فلما يلبسه محدش يقدر يقول له تلت التلاتة كام، مهندس ميعرفش الفرق بين المنقلة والبرجل -الفرجار حتى لا نُغضب إخواننا مُناضلي التصحيح اللغوي- لكنه لبس جلابية النضال، فصار محميًا طبيعيًا بالخيام والألحفة والبطاطين والإضرابات، ولو شاور على الهرم وقال إنه على شكل أسطواني، وفكرنا نعارضه، يبقى كده إحنا منبطحين وأعداء ثورة!
ومُناضلو اليومين دول، والذين يقتصر وجودهم على برنامج فضائي مُكيَّف الهواء والمشاريب والعشا من عند (أبو شقرة)، والذين لا يتعدى تأثيرهم فى عموم الناس حدود أسئلة لا تملك إجابات مثل الراجل ده بيشتغل إيه بالظبط، وهل النضال في حد ذاته مهنة ليها مرتب وإيرادات تكفي لفتح بيت في التجمع الخامس أو الرحاب، مع سيارات فارهة وبودي جاردات الواحد منهم يتقاضى شهريًا ما لا يقل عن "عشرين تلاتين ألف جنيه" علشان يتعلف أكل كويس؟ ولما هو مُناضل ليه لما بينزل انتخابات مش بيعرف يجمع أصوات يتخطى عددها الدائرة الضيقة المستفيدة منه زي الطباخ والسفرجي والجنايني والبواب؟!
والمُناضل على أيامنا الغبراء هذه يكتفي بأنه يلبَد في الدُرة أو في غابة من السيقان في مارينا أو مراسي، وأحيانًا يروح أوروبا، أو يعتصم في مقر وسط البلد لو كان تكييف البيت عنده عطلان لحد ما يتصلَّح، ويكون داعي الاعتصام وجيه جدًا، اعتصام مفتوح لحد ما (فتحي) يرجَّع مراته لبيتها ويصالحها ويجيب لها البوتاجاز الخمسة شُعلة اللي وعدها بيه، اعتصام موارب لحين موافقة الست (أم رباب) على تغيير (رباب) للون شعرها من الأسود إلى البُني علشان يناسب الموضة خصوصًا لما تقُص منه شوية.. وهل المصيبة في هذه الاعتصامات؟ طبعًا لا، فهي لا تضر أحدًا ولا تنفع آخر إلا اللي بيقعد يشرب الشاي وياكل الساندوتشات، لكن المصيبة فعلًا في إنها بتبدأ بضجة، وبعد كده بتتسرسب لوحدها وتخلص فجأة، من غير ما (فتحي) يجيب البوتاجاز، ولا (رباب) تصبغ شعرها!
بالمُناسبة.. احتجاز واحد في القسم، أو حتى الزج به في السجن يومين، وكُل شوية نشر للصور بالبدلة البيضا أو الزرقا على سبيل التجارة بالموضوع ده، ليس مؤشرًا أبدًا على كونه مُناضلا، وإلا كانت (ريا وسكينة) و(خُط الصعيد) أبطال قوميين، ومن حقهم أن يُبعثوا من مرقدهم ليقودوا العالم، ونطبع صورهم على تي شيرتات وبوسترات زي (تشي چيڤارا)!
المُهم أن المناضل يلبد في الدُرة بشوية الهجص اللي بيعملهم دول كنشاط سياسي، لحد ما تحصل مصيبة في البلد، قطرين يدخلوا في بعض، عمارة تقع، النت يقطع من عند (فتحي) اللي مجابش البوتاجاز لمراته، هوب تلاقيه نَط فَط على تويتر والفضائيات وجمعيات حقوق الإنسان، وهات يا نضال حنجوري صوتي حيَّاني، المُناضل (فلانين الفلاني) يؤكد أن الثورة لو حكمت مصر لحالت دون دخول القطرين في بعض لأن الشعب وقتها كان هيروح مشاويره بالهليكوبترات، المُناضل (فلانين الفلاني) ينادي بتمكين الثورة من العمارات علشان تسندها ومتقعش، المناضل (فلانين الفلاني) يناشد (فتحي) إنه يجيب البوتاجاز لمراته علشان النت يرجع له!
يعني من الآخر شوية عالم فاضية مش لاقية حاجة تعملها، فصاروا مثل موظفي القطاع العام، الواحد منهم ـ زي الأستاذ (فلانين الفلاني) بيروح الشغل ـ مكتب النضال ـ يمضي ويشرب الشاي ويفطر ويهري شوية بتصريحات أو اعتصامات، ولما تيجي الساعة "اتناشر أو واحدة" يمشي من مصلحة النضال، يروح يشوف مصلحة تانية لزيادة الموارد المالية، واحتمال لو سألته عن قضايا مهمة تخص الوطن وتهم الشعب بجد، أو تسأله عن عزاء أو مواساة في شهداء الشرطة والجيش، يرُد عليك ويقول لَك ناضل علينا بُكرة!
***
على هامش مذكرات الدكتور (عمرو موسى).. كُنت أحب ذلك الرجُل عندما كان وزيرًا للخارجية، وطالما استمتعت برائعة (شعبان عبد الرحيم) وهو يغني له بحب (عمرو موسى) وبكره إسرائيل.. ويؤسفني أنه لا مصر ولا الأمة العربية استفادت مُطلقًا من ذلك الرجُل مُنذ غادر وزارة الخارجية واعتزل العمل العام ولم يظهر مُنذ ذلك الحين مُطلقًا، بينما كان هناك آخر مُتقمصًا شخصيته في مناسبات ومواقف لا تليق أبدًا بتاريخ الدبلوماسي المعروف الذي أحببته أنا و(شعبان)، ومع ذلك أفلت ذلك "المقلداتي" من كُل التهم القانونية والإنسانية المعروفة والتي من ضمنها انتحال شخصية (عمرو موسى) عيانًا بيانًا، رغم أن ذلك المُنتحل لا يشبهه ولا يضاهيه على الإطلاق، عمومًا أتمنى أن تعوِّض مصر غياب استفادتها طوال السنوات السابقة من (عمرو موسى)، لاستفادة طيبة من مذكراته على الأقل!