الست إيناس
تجلس في ركن منزوٍ، ترقب الحركة على المسرح، تناقش مساعديها في كل التفاصيل، تنهض واقفة وتتحرك بخفة وحيوية، تصدر أوامرها.. تعود فتجلس في نفس الزاوية الصغيرة، في موقع ترى منه كل شيء، ترتسم على وجهها المصرى الخالص علامات الرضا، المسرح على آخره، ينقل إليها مساعدوها رغبة الجماهير الواقفة على الطريق راجين السماح لهم بالدخول لمتابعة الحفل وقوفا، تعطى إشارتها بالسماح للناس كل الناس بالدخول.
خمسة آلاف مقعد امتلأت عن آخرها، أما الوقوف فقد بلغ عددهم أكثر من اثنا عشر ألفا، جاءوا من شبرا، والمطرية، ودار السلام، ومصر الجديدة، والزمالك، والمهندسين، هنا كل أطياف الشعب المصرى المحب للفن الجميل، وهنا فنانون بطعم الزمن الجميل، وهنا أجزاء من تاريخ مصر العريق، هنا مهرجان أقيم بين أسوار التاريخ، ليثبت أن مصر لا تزال تنبض بالخير والحب، وكل أطياف الزمن الجميل.
عن الدكتورة إيناس عبد الدايم عازفة الفلوت العالمية، وصاحبة التجربة الرائدة في إدارة الأوبرا، عن مهرجان القلعة نحدثكم، ونطالع معكم واحدة من أبهى صور الأصالة والعراقة والفن الأصيل، صعدت مثل آلاف المصريين إلى قمة الجبل الذي أقيمت عليه قلعة صلاح الدين، من أمامك جبل المقطم لا يزال مشدودا يراقب القاهرة الصاخبة، ومن خلفك مساجد قاهرة المعز التاريخية العريقة، عن يمينك مشاهد الموتى الذين كانوا في يوم من الأيام يسكنون أطراف المدينة، وعن يسارك تلة كبرى تحمل فوق ظهرها واحدة من أجمل حدائق العالم.. حديقة الأزهر.
لم أكن أـتصور أن تتحول هذه البقعة الصغيرة إلى إطلالة نور في وجه العتمة، تذكرت إيناس عبد الدايم التي وقفت بألف رجل في مواجهة التيارات الظلامية أيام حكم الإخوان الغابر، تذكرت كم قاست هذه المواطنة المصرية بصلابة ضد عتمة الأفكار الانتحارية، وتذكرت صولاتها وجولاتها مع مثقفين آمنوا أن مصر لا يمكن أن تختطف من جماعة لا تعرف إلا القتل طريقا للسيطرة والحكم.
مهرجان القلعة للموسيقى والغناء في نسخته الـ٢٦ يعد واحدا من أهم الأحداث الفنية والثقافية، في فترة نلف فيها وندور في حديث مكرر عن تجديد الخطاب الدينى، إقبال الجماهير المذهل على المهرجان يؤكد أننا يجب أن نتحرك من هنا، الموسيقى تطرد النفوس الشريرة، وتمحو كل صنوف الجهل، وتبنى في قلوب الناس خيرا يعم وإصلاحا يدوم، فالنفوس التي تغنى تعشق الحياة وتبنيها.
قال لى الصديق محمد منير صاحب التجربة المهمة في إدارة ملف الإعلام بدار الأوبرا: «كل يوم من أيام المهرجان ندرك أننا أمام شعب عريق يعشق الفن الجميل، لدرجة أن الجماهير تطالب بالسماح لها بحضور الحفلات وقوفا، وهو الأمر الذي لم تعارضه الدكتورة إيناس عبد الدايم، حيث يعج المكان بالحركة والنشاط طوال أيام المهرجان، وسط سعادة غامرة من الفنانين المشاركين والمؤمنين بأن رسالتهم تجد صداها هنا بين أرجاء مسرح محكى القلعة».
رأيت بأم عينى أسرا مصرية كاملة، أبا وأما وأبناءهما جاءوا ليستمتعوا بموسيقى أصيلة، وأصوات تغزو القلوب.. أربع ساعات قضيتها منبهرا بما رأيت من تفاعل منقطع النظير، مع العازفين وفرق الموسيقى الخالصة التي كنت حتى وقت حضورى اعتقد خطأ أنها لون فنى للنخبة.. شباب في عمر الزهور وفتيات في سن المراهقة يغنون مع محمد الحلو، وغالية بن على، وعلى الحجار.. يرددون ملاحم غنائية تم تغييبها لصالح كل صنوف الهبوط الفنى المصطنع.
وأمام هذا الحضور النابه من شعب يعشق الحياة تخاطفتنى أفكارى: لماذا لا يبدأ الكاتب الصحفى حلمى النمنم وزير الثقافة في البناء على هذا النجاح الكبير ليجوب المحافظات، يصل بأدواته إلى القرى والنجوع في صعيد مصر، ينتقل إلى الدلتا ليشغل الفراغ القاتل، ويعلن الحرب على القبح والسطحية والفوضى، لتعود مصر كما كانت حفلا موسيقيا معبرا عن حضارة علمت الدنيا مفردات الجمال.
إن الحرب على الإرهاب ليست في البندقية التي يحملها جندى منتصب وحده في مواجهة أعداء الحياة، وليست في إمام يفتقر إلى أدوات التنوير فوق منبر يحتاج إلى ثورة ليصل إلى الناس.. الحرب على الإرهاب في رواية تغزو العقل، وقصيدة تعبر القلوب، ومقطوعة موسيقية تتسرب إلى النفس البشرية، فتحولها إلى واحة من واحات الجنة الموعودة، سطر نورانى في كتاب أقوى من دانة مدفع، وصوت ملائكى قادر وحده على التغيير، ضربة فأس تشق الأرض، لتنبت خيرا هي أقوى من إطلاق صاروخ.
الحرب على الإرهاب تبدأ من مطاردة العتمة في القلوب، وإزالة الضبابية من بين الجفون، وبث قطرة ماء في وريد يسكنه الجفاف، رسالة صادقة من على مسرح جاد كفيلة بأن تصنع بطلا من أجل البناء، وإنسانا قادرا على العطاء، وأما حنونا تنتج عالما وشيخا وطبيبا وبطلا يذودون عن وطنهم بالنور والحب والبناء.