رجل من مصر.. بهي الدين بركات (2)
وعرضت عليه الوزارة مرة أخرى في يوليو 1953، قبل الثورة بأيام.. وكان الملك فاروق في ذلك الوقت من العام بالإسكندرية، وكانت مواعيد الطعام مقدسة لدى بركات.. وأثناء تناول العشاء في تمام الثامنة والنصف مساء، رن جرس التليفون.. وجاء السفرجي، قائلا: "حافظ باشا عفيفي على التليفون يا معالي الباشا".. وكان حافظ عفيفي رئيس الديوان الملكي، وقام بركات ليرد.. فعلم أن الولايات المتحدة أرسلت لفاروق إنذارا بأنه إذا لم يحسن إدارة البلاد فإنها ليست مسئولة عن بقاء الأسرة المالكة في مصر.. وأخبره حافظ عفيفي أنهم رأوا أن أفضل خطوة لمواجهة هذا الإنذار هو اختياره لتأليف الوزارة.. فأجابه بركات: لا أستطيع قبول هذا العرض يا حافظ، وأنت تعلم أنه عرضت عليّ الوزارة من قبل ورفضت.. فقال له: "ليه بس يا باشا؟!".
فأجاب: أولا الإنجليز موجودون في البلد، ولن أستطيع أن أخرجهم منها، وثانيا أنني لست حزبيا، وسأواجه معارضة شديدة من الأحزاب، وثالثا أنني لن أستطيع التحكم في تصرفات السرايا والعائلة المالكة، فكيف تطلبون مني أن أحكم، وأنا لا أمتلك آليات تنفيذ أي قرار أتخذه؟! أين هي آليات الحكم التي يمكن أن أحكم بها البلاد؟!
فرد عليه حافظ عفيفي: ياباشا، دي مسألة حياة أو موت.. وإحنا عايزين ننقذ أنفسنا.. وبعد نقاش وجدال، قال له بهي الدين باشا: طيب، أنا هاجي إسكندرية بكرة في قطار الساعة 2،30 ظهرا.
وحتى لا يقال إنه تخلى عن القيام بمسئولياته في ذلك الوقت الخطير، قرر وضع شروطه، فإذا قبلوها كان بها، وإن لم يقبلوها فهو بذلك لا يكون قد تخلى عن مسئوليته أمام الشعب.
وبالفعل أبلغ حافظ عفيفي بأن لديه شروطا لقبول تشكيل الوزارة، وهي: أولا: أن يكون له الحق في استعمال حقوقه الدستورية كاملة غير منقوصة دون تدخل كائن من كان.. ثانيا: أن توافق الأحزاب وتؤيده مجتمعة لأنه يريد أن يحكم البلاد حكما وطنيا.. ثالثا: أن يكون له الحق في الاستغناء عمن يرى من رجال السرايا دون مساءلة، وكان يقصد شلة الملك فاروق أمثال بوللي وكريم ثابت.
واتصل به حافظ عفيفي بعد ذلك ليبلغه أن الملك قبل شروطه، فرد عليه بهي بركات بأن التشكيل الوزاري سيكون جاهزا في اليوم التالي 12 ظهرا.
وقام بهي الدين باشا بعد ذلك بحجز غرفة في فندق "سيسل" بالإسكندرية لأنه أراد أن يشكل ورشة عمل خاصة به.. المفاجأة أن رجال السرايا المقربين من فاروق قالوا له إن الشروط التي وضعها بهي بركات لقبوله تأليف الوزارة تعني ببساطة أنه يلغي وجود الملك، وأنه سيصبح الملك الفعلي.. واقتنع فاروق برأيهم.. فذهبوا، ومعهم الملك، في نحو العاشرة من مساء نفس اليوم إلى حسين سري الذي كان قد كُلِف بتأليف الوزارة بعد استقالة الهلالي باشا، وكان يقيم بفيللا بسيدي بشر، وكان لا يزال بالبيجامة، وسأله الملك فاروق: أين وزارتك؟ فقال له: جاهزة يا جلالة الملك، وكاتبها في ورقة.. فقال له: اطلع هاتها من فوق بسرعة.. وكان يحضر هذا اللقاء مصطفى أمين، الذي أعطاه الملك الورقة، وقال له: خد.. انشرها الصبح.
وللعلاقة الوطيدة بيين مصطفى أمين وبهي بركات، فقد اتصل به تليفونيا، عقب حضوره لقاء الملك وحسين سري، في منزله 10،30 مساء، ليبلغه بما حدث.. فردت عليه زوجته بأن الباشا نائم، ولا تستطيع إيقاظه، فألح مصطفى، وقال إنه يريده في أمر خطير جدا.
وبالفعل استيقظ بركات.. وقال له: خير يا مصطفى؟ قال: يافندم الوزارة اتشكلت.. قال: إزاي.. أنا المفروض هاقدمها بكرة الساعة 11 صباحا.. قال مصطفى: يافندم أنا متأكد من الخبر اللي باقوله.. تساءل: ومين اللي شكلها؟ أجاب: حسين سري باشا.. وكان رد بهي الدين: طيب الحمد لله.. أنا كده خلصت من المصيبة اللي جت لي.. ودلوقتي أقدر أنام وانا مطمن.