رئيس التحرير
عصام كامل

الدكتورة «بنت الشاطئ» تكتب: «النتش» نوع من المبالغة

فيتو

في مجلة روز اليوسف عام 1956 وفى تحقيق خاص عن الكذب في حياتنا قالت الكاتبة والمفكرة الإسلامية الدكتورة عائشة عبد الرحمن الشهيرة ببنت الشاطئ:


كانت حياتى في صباى سلسلة من الأكاذيب البيضاء التي تفننت في اختراعها لكي أرضي رغبتي في التعلم والدراسة على غير رضا من والدى الذي حجزنى في الحريم منذ جاوزت العاشرة من عمرى، ذلك لأنه كان يرى في خروجى خروجا على تقاليد بيئتنا المحافظة ومساسا بمركزه كرجل دين وعلم ومعلما.

واضطررت أن أدعي المرض ليأذن لى في التردد على الأطباء، بينما أذهب في الواقع لأداء هذا الامتحان أو ذاك.. حتى إذا انتقل أبى من معهد دمياط الديني إلى الجامع الأزهر ابتدعت فكرة التردد على أضرحة آل البيت والأولياء الصالحين ليؤذن لى في الخروج حتى أتلقى دروسا سرية في اللغتين الإنجليزية والفرنسية عند بعض الجيران.

وبعد أن عرف أبى بأنى أتلقى العلم سارت الأمور طبيعية حتى سعى بعض الأساتذة الكرام من أصدقاء الأسرة إلى نقلي إلى كلية البنات وفيها قسم داخلى حتى يتاح لى جو ملائم للدراسة بعيدا عن البيت ــ وتلك كذبة أخرى ــ حيث عمدت من اليوم الأول للدراسة لادعاء الحمية عن الطعام بأمر الطبيب حتى لا أكشف جهلى بأساليب المائدة العصرية ولا أرهق ميزانيتى المتواضعة بثمن الوجبات الفخمة مجاراة لزميلاتي. ثم فوجئت أن المدينة الجامعية لا تتقاضى من طلبتها بالقسم الداخلى أي ثمن للطعام.

والحقيقة أنه يندر أن أفعل الكذب لأنى فطرتى الريفية الصريحة كانت تضيق بتلك الأكاذيب الصغيرة التي اضطرتني إليها ظروف بيئتى الأولى.. فلما تحررت منها بالزواج بدأت أعيش في جو يقدس الصراحة ويمقت التكلف والتزوير والنفاق وبخاصة بعد أن صرت أما ملزمة بحكم أمومتها أن تكون لأطفالها قدوة صالحة.

ذلك لأن الطفل لا يكذب من تلقاء نفسه وإنما يضطر إلى الكذب تقليدا أو خوفا، والنتش عند البعض نوع من المبالغة مصدره عدم الثقة بالنفس، وشعور النتاش بنقص يحاول تغطيته بمبالغات قد تجاوز المدى في الشطح، والبيئة الشرقية بما شاع فيها من نفاق اجتماعى تعين على هذا النتش الذي أعده مرضا نفسيا أكثر مما أعده عيبا خلقيا كالكذب.

وأرى أن علاج الكذب في الكبار صعب جدا يحتاج إلى رياضة قاسية، أما في الصغار فإذا تولى الطفل مربى رشيد يعرف أولا الدافع إلى الكذب وهل هو عن خوف أو رهبة أو تقليد أو جموح في الخيال.. ثم يكون العلاج بإزالة الأسباب.

وفى كل حالة لا يجوز أن نصارح الطفل أنه كاذب أو نعالجه بالزجر والتهديد.
الجريدة الرسمية