رئيس التحرير
عصام كامل

«العمار» من بلد المشمش إلى منبع الأطباء وأساتذة الجامعة «تقرير مصور»

فيتو

هواء القاهرة الثقيل يبدأ في الاختفاء تدريجيًّا، كلما ابتعدت السيارة عن ازدحامها الخانق وصخبها الذي لا حد له فلا شيء يوقفه، السيارة "الميكروباص" تسير بسرعة فائقة فوق الأسفلت على جانبي الطريق تراصت العمارات والبنايات العملاقة، ثم لا يمر سوى نصف ساعة حتى يتبدل المشهد على يسارك ويمينك تمامًا، كأنك انتقلت بمن حولك إلى بلد آخر بل وحقبة زمنية مختلفة.


اللون الأخضر هو الغالب على المشهد، مساحات شاسعة من محاصيل الذرة والأرز تتناثر في كل مكان، هذا الفلاح وذاك يظهر شبحهما من بعيد وهما يجلسان بجوار الأبقار لحراسة قطعة الآرض ومتابعة المحصول وهو ينمو اليوم تلو الآخر.



على بعد نحو 30 كيلو مترًا من القاهرة وبعد رحلة تختلط بها معالم المدنية بالريف، رائحة التراب المنتشرة ذراته على زجاج السيارة المتهالكة، تعلمك أنك في إحدى قرى مدينة طوخ بالقليوبية، لا زالت الخضرة ومساحات الأراضي الزراعية تحتل المشهد على الجانبين، ممتزجًا برائحة ريفية أصيلة قد لا تجدها إلا هناك فقط، ليقطع السائق صمت النسوة الجالسات في السيارة بجلابيبهن الفلاحي، التي تبدو للوهلة الأولى مثيرة للتعجب والأسئلة، صائحًا "اللي نازل العمار يستعد يا جماعة".

لافتة كبيرة تتوسط شارع عمومي متوسط المساحة، تتزين برسومات لثمار المشمش وتتوسطها عبارة بخط كبير "العمار الكبرى ترحب بكم"، فينعطف السائق يمينًا لتبدأ الرحلة إلى ذلك العالم المثالي إلى حد بعيد.































على يسارك في مدخل القرية، تتواجد مقابر العائلات المقيمة بها، تشغل حيزًا ليس بالصغير لكنه صامت في وجه صخب الصغار الذين يلعبون في الجهة المقابلة للأحواش، ويليها منزل الحاج يوسف عمدة القرية، فيعد هذا الشارع هو "الفايف ستارز" بالقرية، الأنظف والأكثر تحضرًا مقارنة ببقية القرية التي تتخذ الطابع الريفي سمة أساسية لها، ففي هذا الشارع تتواجد الصيدلية الكبرى والبنك الزراعي والوحدة الصحية.

على جنباته تسير الفتيات والنسوة في ملابسهن الفلاحي المثيرة للدهشة، وأحيانًا للإعجاب، ألوان متعددة تجتمع في «جلابية» واحدة، لها طبقة مموجة من الأسفل، لتبدو فضفاضة ولا تبرز الجسد من تحته.

"احنا اتولدنا لقينا أمهاتنا بيلبسوها أول ما البنت تكبر وجسمها يكبر بتلبسها وربينا بناتنا عليها، الجلابية دي من تراثنا، العمار هي القرية الوحيدة اللي مشهورة بيها ولسه بنلبسها" تتحدث سعدية السيدة الأربعينية وهي تشير إلى جلبابها الأحمر بزهو وإعجاب، عن هذا التراث الأبرز في بلد "المشمش" كما يطلق المصريون على تلك القرية، لكنها بلد "المشمش والجلابية الفلاحي" معًا، وبنبرة حسرة تستكمل سعدية "المشكلة إنها بدأت تختفي البنات اللي بتروح الجامعة بطلت تلبسها وبيقلدوا بنات مصر".













قرية العمار الحياة "في المشمش"

منذ عصور سحيقة قد لا يستطيع العقل إحصاءها، وفي مايو من كل عام كانت أطنان المشمش تخرج في أفواج متعاقبة من حدائق العمار التي تشبه أرضها رحم الأم "الولّادة" فلا خيرها ينضب ولا بخلت يومًا على أبنائها، فينتقل في سيارات إلى الأسواق والمتاجر ومحال الفاكهة، لتغرق البلاد بالمشمش هذا الزائر الذي تقصر مدة زيارته فسرعان ما يختفي في أقل من شهرين، وكذلك ينعم أهل العمار بالربح الذي تدره حدائق المشمش عليهم.

"الشجر ده بقاله 30 سنة، كنا زمان بنطلع من بعد الفجر على الصيبة الخشب ونفضل واقفين ستات ورجالة نجمع فيه، لحد الظهر مكنش فيه فرق بين ست وراجل كله كان بيخرج سواء عنده جنينة للمشمش أو لا"، تشير أم محمود بيديها المنكمشتين من كثرة التجاعيد التي تشق ما بين الجلد والأصابع، تاركة أثر شقاء أيام الشباب بعد مرور أكثر من خمسين عامًا، وهي سائرة بين أشجار المشمش التي ورثها أولادها عن والدهم، وتتحدث عن ذكرياتهم مع موسم جمع المشمش في مايو من كل شهر، مشيرة إلى سلم خشبي عملاق يتواجد أسفل كل مجموعة من الأشجار، ويسمى "الصيبة" أو الوسيلة التي استخدموها لتسلق الأشجار. 














"في الفترة من 1998 لـ 2005، كان زرع المشمش قل ولجأنا للقمح والذرة، لكن من خمس سنين بدأنا نرجع النشاط تاني من جديد، بالرغم من إن الشجر كميته بتقل بعد ما كنا بنخرج 50 طنا في اليوم، النهاردة في موسم الحصاد بنخرج 10 أطنان بس، وده بسبب المباني اللي زحفت على معظم جناين المشمش"، يجلس محمد عبد الرحمن، مدرس سابق، في عشته الخوص وسط أبقاره التي يقوم من حين لآخر يطعمها ثم يعود لجِلسته، ويتحدث عما لحق القرية من أضرار في السنوات الأخيرة بسبب الزحف العمراني، فبين كل مساحة وأخرى تجد مبنى قيد الإنشاء يتوسط الزراعات، أو ملابس تتدلى من إحدى الأشجار وصوت يشق صمت المكان ينادي على أحدهم أن يقبل لتناول الغداء.


















رائحة الهواء في العمار تشبعت بنسيم طفولي يسري في جسدك كلما مررت على بيت وجدت أطفاله يجلسون عند مدخله تغطيهم أكوام الرمال وآخر يملأ إناءً ويسكبه في مساحة خضراء صغيرة كأنه يسير على نهج أبيه، فالطفولة هناك لا زالت في خدرها، لم تمسها بعد تفاصيل الحياة المتشابكة والتي تفسد أكثر مما تصلح، أبناء العمومة مع الإخوة جميعهم يحملون شبهًا واحدًا، فبالكاد تستطيع أن تفرق بينهم.

قرية الأطباء والأساتذة 

يؤكد الحاج يوسف، القاطن بالقرية منذ ستين عامًا، وقد نُصب مؤخرًا عمدة لها، أن القرية تتمتع بنسبة تعليم لا بأس بها، فهي الأكثر ازدحامًا بالسكان بين قرى طوخ، فوصل عدد سكانها إلى 90 ألف نسمة، "يوجد أكثر من 120 أستاذا جامعيا بكليات مختلفة وأكثر من 500 طبيب ومهندس، نسبة المتعلمين هنا نحو 60%.

وأشار إلى أن نسبة تعليم الفتيات مرتفعة مقارنة بالفتيان منذ أكثر من عشر سنوات، فبين كل خمسة تجد أربع بنات متعلمات يقابلهن ولد واحد متعلم.

ويضيف يوسف: "أما عن الفلاحين فتبلغ نسبتهم 34% فقط، لأن معظمهم زهد في الفلاحة بسبب إنه ممكن يقعد يشتغل طول اليوم وياخد 150 جنيه بس، فمعظم السكان إما أن لجأوا للحرف أو تعليم أبنائهم تلاشيًا للانخراط في مجال الزراعة الطارد لممتهنيها".

كما توجد بالقرية وحدة صحية مجهزة، وبنك زراعي وخمس مدارس ابتدائي وواحدة ثانوي.
الجريدة الرسمية