رئيس التحرير
عصام كامل

مرَّة سألت الأستاذ أرنب!


(1)
ذاك الصباح كُنت منزعجًا للغاية؛ ففي مدخل بيتنا احتل بائع جائل المكان بالسمك والقشر والزفارة والذباب والقطط والمُخلفات التي لا يحرص على التخلُّص منها بعيدًا، طالبته بالبحث عن مكانٍ آخر له، وفاجئني جارنا المُحامي والناشط السياسي، واللي مشارك كمان في محل مانيفاتورة حقوقي لزوم زيادة الدَخل المادي والسلطوي، الذي يسكن في البيت اللي قدامنا ـ فاجئنى ـ بهجوم كاسح ضد شخصي المسكين، بل وهددني برفع قضية ضدي بسبب بتاع السمك، رافعًا عدة شعارات تجارية مُعتادة على غرار التعايش السلمي، وحقوق الإنسان، وشظف العيش، وتيران وصنافير مصرية، وخلافه!


قال مُترافعًا في الشارع إن الراجل غلبان وبيسترزق، قلت له إن الروائح والذباب والبلا الأزرق الناتج عن كُل ذلك لا يطيقه بشر، وافترقنا وأنا أفكر في تكاليف المُحامي الذي سأستعين به لصَد القضايا التي سيجرجرني فيها في المحاكم الدستورية والإدارية والجنايات والأسرة كمان، وبعد الظهر كانت الشمس قد انتقلت لواجهة بيتنا، فانتقل بائع السمك بدوره ليجلس في الجهة المُقابلة عند مدخل بيت جارنا الذي لم يطق صبرًا، وأشبع الرجل سبابًا ولعنًا، بل وصَب عليه ماء مغلي من الشرفة ليجبره على الرحيل ـ بقرفه وروائحه وذبابه وأمراضه كما قال صارخًا ـ من أمام بيته، ولما قلت له إن الراجل بيسترزق وحرام عليك، هي دلوقتي تيران وصنافير مبقتش مصرية يا راجل؟ هددني بأنني إذا لم ألزم الصمت فسيقوم برفع قضية ضدي برضو، وهو يستخدم شعارات تجارية أخرى مُعتادة على غرار نظافة البيئة، وثقب الأوزون، والاحتباس الحراري، وكان من الواضح أنه أصيب باحتباس من نوع آخر، فنصحته بتناول مُليِّن علشان يعرف يعيش!

(2)
وكان لي موقف آخر مع الجار نفسه المحامي بعدما عزمت عليه مرَّة ليشاهد معي فيديو قصير لسائقي قطار أثناء تدخينهم للمخدرات، وقتها تسائلت عن كيفية التعامل مع أمثال هؤلاء، وكُل منهم مسئول عن آلاف البشر أثناء عمله الذي يقوم به وهو مسطول، سائق القطار يحمل في رقبته عددا من الأرواح لا يحمله سائق آخر، لا سائق الطائرة، ولا الأتوبيس، ولا حتى السفينة أحيانًا، المُهم قُلت وقتها غاضبًا إن أمثال هؤلاء لازم يترموا في الشارع ليكونوا عبرة للآخرين، ولتأمين القطارات والأرواح البريئة التي تحملها، فثار ضدي هاتفًا بأن الثورة مُستمرة، وأن سبب كُل هذا أن الثورة لم تصل بعد للحُكم!

وبعد أن شتم في ما يسميه المخابيل بـ"العسكر" ومتعرفش السبب إيه، لكن هذا مدخل أساسي للجماعة بتوع التثوُّر اللا إرادي، قال لي إن سائقي القطارات فاتحين بيوت، وعندهم عيال، ولا يُمكن القبول بتشريدهم، وإنه بصدد تحريك دعاوى قضائية ضدي بسبب هذا الرأي، المُهم قُلت له يعني الناس اللي بتموت وبيروح دمَّها هَدَر بسبب الإهمال من هذا النوع معندهمش عيال؟ وهل هؤلاء مقبول تشريد أبنائهم؟ طبعًا اتهمني وقتها إني منبطح ودولجي، وسألني في الختام: بتقول إن في إيديهم أرواح آلاف البشر، إنت هتكفر؟ الأرواح في إيدين اللي خالقها، اتوكل على الله محدش بيموت ناقص عُمر!

وبما أنه حقوقي وناشط مُنذ أيام ثورة يناير، فقد فتحها الله عليه، وجاب شوية عربيات ملاكي آخر موديل لنفسه ولأسرته، وعرفت ذات يوم أنه قام بطرد السائق الخاص بسيارة ابنه تلميذ الابتدائي بسبب إن الراجل مُدخِّن، سألته: هو بيدخَّن في العربية وبيخنق الولد؟ قال: لأ طبعًا.. بس ريحة السجاير في جسمه تضُر ابني، فقلت له: حرام عليك، الراجل مسكين وعنده أسرة بيصرف عليها، ليه تقطع عيشه؟ أجابني: ده في إيده روح ضنايا، ناقشته على طريقته: إنت هتكفر؟ اتكل على الله، محدش بيموت ناقص عُمر يا راجل.. فهاجمني بعُنف: إنت عبيط؟ ربنا بيقول ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة؟ هتبقى عبيط وكافر؟!

(3)
وكان لجارنا هذا نشاطات حقوقية من إياها، وسألته قبل يومين، وواضح إن حضرتك ملاحظ إني بسأله كتير، أكتر من أسئلة (عفاف راضي) للأستاذ أرنب، المُهم سألته: إيه رأي حضرتَك في عودة السفير الإيطالي للقاهرة؟ هذا يعني أن مصر بريئة من دم المشبوه (ريچيني)، فاكر لما كُنت بتعيَّط عليه بالدموع، كأنه ابن عمِّتَك اللي اتربيتوا سوا؟ فاكر لما هددت بقطع شرايينك والدخول في اعتصام مفتوح علشان تزور قبره؟ كُنت أسأله وهو ينظر لي شذرًا دون رَد: إزاي جالَك قلب تتظاهر ضد بلدَك وتحاول تورَّطها وهي بريئة؟ يا أخي حتى بلدَك لو مُدانة لازم تقف جنبها، ما بالَك وهي بريئة؟ هزَّ رأسه وهزّ ديله وقال بعيونه الحلوين ـ زي الست زرافة في نفس الأغنية ـ أيها خضرة بشوفها بآكُلها وأهضمها بين الفكِّين!

يعني الموضوع سبوبة مادية لا ليها علاقة بوطنية ولا مهلبية، وهذا درس من مئات الدروس المُشابهة التي تلقيناها على رؤوسنا بعد ثورة يناير التي فجَّرت الشجاعة والتضحية من ناس، جنبًا إلى جنب مع الخيانات والسفالات والأنانية والاستغلال من آخرين، وشوية العواطلية اللي مفيش وراهم حاجة غير اصطناع المشكلات للبقاء في بؤرة الضوء، حتى الخيانة العلنية أصبحت مهنة وليها كارنيه، ونقابة تدافع عن حقوق أعضائها، طبعًا لن أذكُر إن الأستاذ جارنا أشار لي ولكُل سكان الشارع بإشارة قبيحة ـ مشهورة منه ـ وهو ينقل عزاله من شقته علشان يروح يسكُن في منطقة أكثر رُقيًا، بعيدًا عن تهديدات بتوع السمك، بينما كُنت أنا مشغولًا بتعليق لافتة على مدخل بيتنا لعبارة (ڤيكتور هوجو) ـ غير المشهورة للأسف ـ التي يقول فيها "لا يُمكنك أن تكون بطلًا وأنت تقاتل ضد وطنك"!
الجريدة الرسمية