«حكاية نائب» من كتاب «ألف نيلة ونيلة»
بلغني أيها الملك السعيد، ذو الرأي الرشيد، والحكم السديد، والعمر المديد، أنه كان ياما كان في ما نعيش فيه من زمان، وفي هذا العصر وهذا الأوان، في بلد يسمى "فسادياب" من بلاد الدنيا العامرة، يعيش فتى اسمه مهاب، ورث ثروة طائلة عن والده في زمن الذئاب، في حيه الشعبي ومسكنه الجنوبي، في زمن حاكم اشتهر بالفساد والتنكيل بالعباد، خاصة أن له ولدين اشتهرا بين الناس بأنهما ظالمين، وله حاشية وحزب كانت شهرته بأنه ديمقراطي، أثرى معظم رجاله على جثة فقراء الوطن، وامتصوا دمهم من اللقمة حتى السكن، فتركوهم جثة هامدة وتركوا الوطن حطاما جامدة، فرأى ذلك الفتى أن أفضل طريق لتنمية هذه الثروة ليس التجارة التي أخذ فيها شهادته لم تكن عن جدارة، لكن السياسة بالأسلوب الانحطاطي ودخول جنة الحزب إياه، فتنهال الأموال عليه، وتزيد الثروة بين يديه..
وكانت ثروته التي ورثها عبارة عن عقارات وأراض وساحات، فتتحول إلى أموال لا حصر لها ونقود لا يستطيع الحاسب عدها، فاتخذ سبيله بداية بخوض المحليات تحت مظلة رجال الحزب إياه البارونات، وبرشوته لهم وخداع البسطاء وتعميتهم، وبالوعود الكاذبة للجَمْعِ وإسالة بعض قطرات الدمع، والمساعدات المالية الكبيرة والرشاوى العينية الصغيرة، نجح مهاب في بداية طريق الضباب، ثم تحالف مع نائب من أقدم نواب البرلمان وحوت كبير من حيتان الزمان، الذي قرَّبه من الحيتان الكبار فرشاهم بالمال الوفير والثراء الغفير، وتمكن من الجلوس على مقعد الدائرة العريق وصار بين الناس له بريق، وعرف طريق الثبات والانتصار وهو طريق الرشوة للكبار، من المسئولين الرقابيين وكبار التنفيذيين.
وتشعبت علاقاته وصارت متداولة بين الوزراء وكبار رجال الدولة، مما جعله لا يجد لأهل دائرته أهمية تذكرْ فنجاحه مضمون برشوته التي لا تنكرْ، فما حاجته لأصوات البسطاء وعامة الناس والفقراء؟ فتنكر لهم واحتجب عنهم، وضمته النوادي والفنادق والحانات والحدائق، مع أمثاله من المنحرفين والرجال الكبار الفاسدين، وصرَّح أنه لا حاجة له للحثالة من أبناء الدائرة البسطاء عليهم اللعنة والبغضاء، بل شبههم بأنهم حين يُسبِّبُون له العذاب بأنهم ما هم إلا كلاب، وارتفع شأنه حتى عرفه الحاكم وتضخمت ثروته فلم يعد لها حاكم، وأتهُ كبار المسئولين مهرولين ليشربوا الشاي بالياسمين، وظن أن الدنيا قد أصبحت ملكه وأن الحياة قد دانت له، حتى وقعت أحداث ثورة "تشيرين"، فوجد أن أركان عرشه تتزلزل وأن حزبه ينهار ويتجندل، وأن إخوان الشياطين المعروفين بالإرهابيين، يركبون المشهد والأحرار ومن ادعوا أنهم ثوَّار، ولم يصدق أن حاكم فسادياب يسبه الناس بأقذع السباب، وأنه من الممكن أن يجبر على التنازل عن عرشه فيترك قصره وفرشه، فشارك مهاب بالمال والأمل فيما سمي بواقعة الحَمل، تلك التي دبرها الخونة لتمكين الوجود لهم والسلطان.
وأحكموا المؤامرة مع الجهات المتخابرة، وتعاونوا مع الممالك المتربصة بفسادياب في تثبيت حكم الخونة، وأحيل ذلك النائب للمحاكمة بالعجل وسجن بتهمة موقعة الحَمَلْ، وانتهى عصره وأوانه بتنحي حاكمه وحل برلمانه، وذاق في السجن أشد العذاب وانذل فيه ذل الكلاب، حتى برأته المحكمة الظاهرة وأفاق الشعب من الطبقة المتآمرة، وبدأ يعارض حكم الإرهابيين معدومي الأخلاق فكانت أعظم ثورات الشعب على الإطلاق، وتولى البلاد رئيس يحبها ويحرص ويحترم شعبها، ويعمل على نهضتها الشاملة لكن تظل تجابهه مشكلة، وهي أن بعض الحرس القديم ما زال موجودا في المشهد العظيم، ويدعي الثورية والبطولة وهم مجردون من كل رجولة، وهؤلاء مع حاشية الفتى أقنعوه – بعد أن كان يخجل من مجرد الظهور علانية، والوقوف بين الناس بسواسية– بأن يخوض الانتخابات مرة ثانية، وأن أهالي الدائرة جوعى تهمهم اللقمة الدانية، والمال وإن كان قليل القروش فإنه يعمل عمل السحر في الكروش.
فنفذ النصيحة دون إبطاء واتخذ من الرشوة غطاء، ورغم ظن البعض من الأهالي المثقفين أن ذلك الزمن ولى إلى يوم الدين، وأن الناس قد تبدلت أحوالهم وأظهرت الثورة حسن أخلاقهم، وأنهم لن يغامروا بمستقبل أبنائهم الهائل في سبيل جنيه زائل، ويعيدوا كابوس الواطي البائد من خلال ذلك النائب الفاسد، لكن للأسف هو ما تحقق وعاد الكابوس بفاسد أحمق، ووقف بعض كبار المسئولين من الأجهزة والرقابيين، المفترض بهم أن يكونوا محايدين مع ذلك النائب للرشاوى الطائلة والهدايا الهائلة، وهرع إليه في جنح الظلام والناس كلهم نيام، بعض كبار وحيتان السلطة ليحصلوا على نصيبهم من الكعكة والتورتة، ويكتبوا تقاريرهم أنه فتى صالح تائب والشعب يريده عليهم نائب، فخدع بعض الشرفاء من الكبار وغض الطرف البعض الآخر من الأحرار.
وأدمن النائب بعض أنواع المسكرات واتخذ رفاقا من تجار المخدرات، وقد وعدهم بعودة مجدهم وانتشار نشاطهم، فأنفقوا في سبيل نجاحه ملايين الجنيهات ووزعوا الهدايا من المخدرات، وفي مفاجأة سيل الفساد وقد أتى نجح الفتى، واستعاد مجده القديم والمثقف يتحير ويشعر بأن الحياة لم تتغير، فما زال الفاسدون يهرولون إليه ويركعون بين يديه، ويأخذون المعلوم ويدلونه على الطريق المرسوم، مما جعل ثراءه يزداد بل أنه صار يدعي الثورية والعناد، وأنه ينظر في السياسة العلوية، وصار يسيَّر سيارات العذاب تحت شعار تحيا فسادياب، وتحت صورة رئيس الدولة يطرح لحوما متدوالة بأسعار مخفَّضة ومنع الزحمة وفي حقيقة الأمر يمتلك مصنعا للحمة، يعلم الله مدى ما بها من صلاحية في ظل هرولة مسئولي الصحة الإنسانية، لنيل المعلوم وكتابة تقارير عن هذه اللحوم..
فصار ذلك المصنع يدر عليه أرباحا مهولة ويأخذ دعما على نصيبه من الدولة المذهولة، فشعر ذلك النائب أن زمنه هذا الانحطاطي السائد أفضل من زمن الحزب البائد، وأن شيئا لم يتحول وكلما انتهى الفساد بدأ من الأول، الأمر الذي أصاب الكثير من الناس بالإحباط ورأوا أن الأحوال تسير اعتباطا، فالمسئول الرقابي الذي من المفترض أن يكتب التقارير ويأخذ فيها بالمحاذير، ويكشف للناس عن الفاسدين، ويقدمهم للعدالة صاغرين، هو من يتستر على الفاسد ويمدحه، ويكتب التقارير فيمن يقدحه ويفضحه، فانقلبت الأحوال وصار الفتى يمتلك من الأرصدة الأجوال، يعيش تحت مظلة الفاسدين من رجال الدولة، ويعيث في الأرض فسادا بلا غياب تحت شعار "تحيا فسادياب"، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.