رئيس التحرير
عصام كامل

في معية يوسف (٢١)


من رحمة الله تعالى وعدله أنه لم يترك البشرية دون أن يحدد لها في مسيرتها نماذج مضيئة تحمل مشاعل الهداية والنور.. هذه النماذج ممثلة في الأنبياء والرسل الكرام، وقد رأينا من خلال القرآن العظيم كيف لقيت هذه النماذج على أيدي أقوامها الكثير من الأذى.. ومع ذلك، كانت مثلا عليا في الصبر والقدرة على الاحتمال في سبيل أداء رسالتها..


وقد كان يوسف عليه السلام، أحد هذه النماذج المضيئة، حيث رأينا من خلال قصته الواردة في الكتاب الكريم، كيف كانت حياته مصطبغة بمحن وشدائد، متعددة ومتنوعة.. وقد رأينا في الحلقة الفائتة كيف نجح إخوة يوسف في إقناع أبيهم بإرسال أخيهم بنيامين معهم في السفر إلى مصر بناء على طلب يوسف، وكيف أنهم عندما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه، وهمس في أذنه قائلا: (إنى أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون) كنوع من التطمين له من ناحية، وأنه يعلم عن إخوته الكثير من ناحية أخرى..

(فلما جهزهم بجهازهم) أي ولما قضى حاجتهم وحمل إبلهم بالميرة (جعل السقاية في رحل أخيه) أي أمر يوسف غلمانه بأن يضعوا مكيالا من ذهب مرصع بالجواهر في متاع أخيه بنيامين(ثم أذن مؤذن) أي نادى مناد (أيتها العير) أي يا أصحاب الإبل ويا أيها الركب المسافرون (إنكم لسارقون) وقد صاغ يوسف هذه الحيلة كى يستطيع استبقاء أخيه عنده.. التفت إخوة يوسف إلى المنادى وسألوه: ماذا ضاع منكم؟ وكأنهم يقولون للمنادى لا تستخدموا هذه الصيغة معنا ولا تتجاوزوا فتتهموننا بغير دليل (قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون)؟ تحدث المنادون إليهم وقالوا: ألم نكرمكم ونحسن ضيافتكم، ونوف إليكم الكيل؟ قال إخوة يوسف: بلى، لكن ما القصة؟ وبدلا من أن يستخدم المنادون عبارة أنتم سارقون، قالوا: "فقدنا" مكيال الملك المرصع بالجواهر.. ثم أردفوا قائلين: (ولمن جاء به حمل بعير) أي من رده إلينا فسوف نجازيه حمل بعير من الطعام، وقال أحدهم مؤكدا: وأنا المسئول عن ذلك..

قال إخوة يوسف (تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض) أي نقسم بالله أيها القوم أننا أبعد ما نكون عن ذلك، فنحن أولاد أنبياء، كما أن مظهرنا لا يدل على أننا مفسدون، ونحن لم نأت لمثل هذه الأمور؛ سواء الإفساد أو السرقة (وما كنا سارقين).. قال المنادون (فما جزاؤه إن كنتم كاذبين) أي لو ثبتت عليكم عملية السرقة بخلاف ما تدعون، فما هو الجزاء الذي ترونه؟ رد إخوة يوسف قائلين (جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه) أي من قام بهذا الفعل يستحق توقيع العقوبة عليه.. قام المنادون بتفتيش أوعيتهم، وإتماما للحيلة بدءوا بأوعيتهم قبل وعاء بنيامين.. بالطبع لم يجدوا شيئا في أوعيتهم، لكنهم استخرجوا مكيال الملك من وعاء أخيهم...

حينذاك، أسقط في أيديهم وحاروا ماذا يفعلون، فهاهو أخوهم بنيامين يثبت ما أثاره المنادون وهو السرقة.. يقول تعالى (وكذلك كدنا ليوسف) أي ألهمناه هذه الحيلة ليستبقى أخاه عنده (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله) أي إلا بمشيئته سبحانه وإذنه، وهكذا يمكن الله لمن يشاء من عباده (نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذى علم عليم) أي فوق كل عالم من هو أعلم منه حتى ينتهى الأمر إلى الأعلم مطلقا وهو الله رب العالمين.. (وللحديث بقية إن شاء الله).
الجريدة الرسمية