رئيس التحرير
عصام كامل

هو ده لون شعرك ولا صابغه؟


"أنت لون شعرك كده ولا صابغه؟

لا لونه كده

طيب ليه متصبغوش أسود علشان تبقى زى بقية الناس..

مش لو ربنا عايزنى زى بقية الناس كان خلقنى زيهم؟"

حوار بين نوبى وأحد الملتحين فى أوتوبيس فى فيلم "مرسيدس" للرائع يسرى نصر الله. يلخص حوار هذا المشهد بالنسبة لى الجدل القائم حاليا حول مدنية الدولة.. وحول ما يطالب به مناصرى اتجاه الإسلام السياسى..

مشكلة أتباع هذا المذهب بالنسبة لى تتلخص فيما يمكن أن نلاحظه فى خطاب الفترة الماضية عما "يلفظه المصريون" وعمن "اختارهم المصريون" وعما "يريد المصريون".. ويبدو أنهم ككثيرين يتصورون أنهم يعرفون الخمسة وثمانين مليون مصرى واحدا واحدا ومعه قائمة برغباتهم وأولوياتهم..

وحالهم فى ذلك حال الكثير من الإسلاميين (وليس المسلمين فالتفرقة مهمة) وهذا هو المعترك الأساسى بيننا كدعاة لمدنية الدولة وبين من يدعون لدولة دينية.. أعتقد أن من الفرضيات العبثية جدا فى عصرنا الحالى أن نتخيل أن هناك ما يدعى بـ"المواطن المصرى" كنمط واحد يمكن أن يطبق على جميع سكان البلاد..

حالنا فى ذلك حال الولايات المتحدة ودول أوروبا بل وإيران والسعودية حيث النظام الفاشى الدينى فى أوضح صوره.. ما من أحمق فى العالم كله يتخيل أن سكان دولة ما فى العالم يجب أن تكون لهم هوية واحدة وآراء واحدة وأخلاقيات واحدة.. والدول تقوم على الحد المتفق عليه عالميا من الحقوق والواجبات لا على الحد الأقصى والعرضة للخلاف والجدل..

فما تراه أنت حلالًا قد يراه غيرك حراما وما تراه أنت دخيل ولا يعبر عن الهوية المصرية (كما يرى الكثيرين من الشيوخ إياهم عن اليسار مثلا أو عن العلمانية) يراه آخرون جزءًا من هويتهم التى تربوا عليها وليس لجماعة ذات توجه فكرى أن تشكك فى هوية جماعة أخرى تنتمى لتيار مختلف القومية لأنهم ببساطة يرون أن "نحن المصريين ومن لا يفكر مثلنا هو عميل للأجندات الخارجية"..

أخطر ما فى الموضوع أن الكثيرين يرسمون اسكتشا تفصيليا للمواطن كما ينبغى أن يكون بالنسبة لقناعاتهم الشخصية ويرغبون فى أن يصنعوا من هذا قانون لنتحول لدولة من المسوخ المتشابهين بلا هوية فردية.. رغبة لا تقل فى حماقتها عن الدولة المتفوقة والجنس الآرى الذى طالما حلم به هتلر.. وما من قانون فى العالم يستطيع أن يطبق هذا أو أن يستوعبه.

الخطر الأساسى فى حالتنا هنا يتجاوز الدستور والرئيس ومجلس الشعب.. فطالما كان جيلنا واعيا سنظل فى حالة عراك مع تكميم الأفواه والقمع وتلوين الحقائق.. ولكن الخطر فى التسلل الذى يقوم به تدريجيا تيار يستغل حرية تعبير لا يؤمن بها ويكفرها ليسطو تدريجيا على وسائل الإعلام والتعليم والقنوات التى تتحكم فى وعى الشعب..


منذ فترة ظهر شيخ ليصف الفنانات والفنانين والفن بالعهر وهو رأى قد يشاركه فيه الكثير ممن يشكل الدين معملاً لتفريغ الهاجس الجنسى المتيقظ لديهم ومتنفسا لكبت جعل أعضاء جنسية تنمو مكان العقول لديهم.. ولكن.. السؤال خلال عشر سنوات حين يصبح هذا الصوت منتشرا أكثر مع تساهل النظام القائم مع هذا الفكر فى مجابهة الفكر المدنى..

ومع تزايد الكبت الجنسى فى مصر والذى نرى نتاجه كل عيد.. هل سينمو جيل بالكامل يرى فى الفن عهرا وفى الكتابة والتفكير الحر كفرا؟ أن تغلغل الفكر التكفيرى فى عقول العامة وتحوله لحقيقة يومية وتحول الفكر المستنير إلى الصوت الآخر المعارض هو أخطر معركة علينا أن ننتبه لها.. فبوسعنا مجابهة الالتفاف على الدستور ومجلس الشعب إلخ فكلها حروب واضحة.. أما حرب وعى الأجيال القادمة فهى الحرب التى فى وسعها أن تصنع فى مصر طالبان جديدة..

علينا أن نذكر الناس بما هو الفن والكتابة.. علينا أن نذكرهم بالريحانى.. فؤاد المهندس.. يوسف شاهين..صلاح جاهين.. نجيب محفوظ.. يحيى الطاهر عبد الله وبهاء طاهر.. بل وبجمال الدين الأفغانى وطه حسين.. لابد من أن يتذكر الشعب المصرى فى ظل الهجمة الظلامية.. كم من المعانى النبيلة والأفكار الخالصة وصلت إليه من خلال استعراض فى فيلم قديم أو فى أغنية أو فى قصيدة.. ففى الذاكرة يكمن الخلاص وفى تغييبها يكمن الظلام..

يحضرنى مشهد من فيلم ٤٥١ فهرنهايت بين أحد رجال المطافئ المكلفين بإحراق أى كتاب مقروء بحجة أن الكتب تحمل الشقاء للإنسانية وفتاة تسأله أما كان قرأ أبدا كتابا وعما تتحدث الكتب التى يحرقها.. ومع التساؤال تبدأ رحلة الوعى والمعرفة عند رجل المطافئ لينتهى به الحال هو شخصيا أحد البشر/ الكتب الذين يحملوا فى ذاكرتهم كتابا لا يمكن إحراقه لأن صارت له روحا.. علينا أن نصير كذلك..

وعلينا ألا ننسى أنه لا ولم يوجد أبدا ما يسمى بالمواطن المصرى هو من صفاته كذا وكذا وطريقة تفكيره كذا وكذا.. فتلك هى الأكذوبة الأعظم التى قد تحولنا يوما.. إلى مسوخ بلا هوية ووجوه لا تحمل ملامح.

الجريدة الرسمية