التعليم.. اجتهاد وزير للتجريب في عقل مصر
مصيبة هذا البلد في ذاكرتها وفِي الهواة الذين يأتون للتعلم والتجريب وعبقرية بعضهم في محاولة إعادة اختراع العجلة، فمنذ الستينيات ولكل وزير للتعليم سياسة وفلسفة وورقة للتعليم، وعندما يرحل يأتي وزير آخر ليواصل تجريبة، ومع كل قادم تتكرر نفس الزفة بين الرفض والتأييد ويكفي مثلا أن نعرف أن وزارة التربية والتعليم تعاقب عليها ١٢ وزيرا منذ يناير ٢٠١١، بمعدل وزير كل ستة شهور، مما أدى لمزيد من التدهور والاضطراب وعدم الاستقرار نتيجة إصرار كل منهم على وضع بصمته الشخصية على السياسة التعليمية.
ولهذا السبب توجه القادرون على تعليم أولادهم في المدارس الدولية كأفضل استثمار، والأمر ليس بالهزل إذ أن جودة العملية التعليمية تلعب الدور الأهم في نهضة ورقي الأمم، ولنا أسوة بما حدث في اليابان وفنلندا والدنمارك وسويسرا التي تفتقر إلى الثروات الطبيعية ولكنها عوضت ذلك بتنمية مواردها البشرية بنظام تعليمي عالي الجودة، عكس ما حدث في مصر، فقد بدأت جودة العملية التعليمية في الهبوط منذ السبعينيات حتى اقتربت من المراكز الأخيرة على مستوى العالم، والأمر نفسه بالنسبة للتعليم الجامعي الذي يعتمد على تخريج الكم وليس الكيف لأسباب تتعلق بالحفاظ على السلام الاجتماعي تحت وهم شعار مجانية التعليم وهو أكبر كذبة يمارسها الجميع علنا، والكل يعلم أنه يكذب والآخرون يكذبون عليه مما ينتج في نهاية الأمر منتجا عشوائيا..
والغريب أن المراكز التربوية التابعة للوزارة وكليات التربية بها مئات الدراسات والخطط للتطوير والتحديث، ولكن كل وزير يشطبها ويخترع استراتيجية ونسمع كلاما كبيرا عن نظريات العلم لا التعليم وبعض المصطلحات المعقدة بما يوحي بعبقرية السيد الوزير، والأغرب أن البرلمان على مدى نصف قرن كان يناقش ويمنح الوزير التفويض اللازم للعب في عقل ومستقبل الأمة، وعندما تم الإعلان عن المدارس اليابانية فوجئ أولياء الأمور بأن المدرسة تطلب من التلاميذ مشاركة المدرسين والعاملين في تنظيف المدرسة فقاموا بسحب أبنائهم على أساس أنهم أرسلوا أولادهم ليتعلموا لا ليغسلوا أرضيات الفصول وتنظيف الحمامات وخلع أحذيتهم خارج الفصول وبعد أن تبين حكمة التعليم الياباني عادوا يتسابقون لإيجاد أماكن لأولادهم في هذه المدارس، حتى لو كانوا سيكنسون الفصول وهذا أبسط مثال لمعنى التربية والتعليم.
وواجه واضعو امتحانات الثانوية العامة هذا العام مشكلة كبيرة فيما عرف بنظام البوكليت، وهو ما وضع الطلبة الذين اعتادوا على الحفظ وحل آلاف النماذج لامتحانات السنين السابقة، وكان الوزير الهلالي السابق قد عجز تمامًا عن وقف مهزلة تسريب الامتحانات كأفضل نموذج يختصر ما وصلنا إليه، التربية قبل التعليم في مصر، وبدا أن دولة كبرى بحجم مصر لا تستطيع أن تضع سياسة تعليمية للثانوية العامة بل ولا للشهادة الابتدائية، فكل ثلاث سنوات يتم تغييرهما ولكل وزير رؤية خاصة بهما حتى حسم الوزير الجديد الشهادة الابتدائية وألغاها، ولسوف يأتي وزير بعده ويعيدها كما فعل الوزير حافظ غانم في السبعينيات، وأعلن عن سياسة تعليمية سماها التعليم في الدولة العصرية..
وبعدها بشهور أعلن على عبد الرازق سياسة تعليمية جديدة، قال عنها بالحرف الواحد إنه لابد أن تكون لنا سياسة تعليمية ثابتة لا ترتبط بالأفراد وفِي عام ١٩٧٩ خرجت علينا الوزارة بوثيقة تطوير وتحديث التعليم في مصر في عهد الدكتور مصطفى كمال حلمي، وفِي منتصف الثمانينيات صدرت وثيقة السياسة التعليمية في مصر على يد الدكتور عبد السلام عبد الغفار، وتغيرت الوزارة وخرج الوزير بعد شهر من صدور سياسته ثم شكل وزيرا التعليم اللذان تولى أحدهما التعليم العالي، وهو فتحي محمد على والآخر منصور حسن لوزارة التعليم لجنة لوضع سياسة تعليمية معًا عام ١٩٨٦..
وقبل أول اجتماع للجنة خرج الوزيران معا وجاء الدكتور فتحي سرور، لتولي الوزارتين معًا وأصدر وثيقة المشهورة عام ١٩٧٨ باسم وثيقة تطوير التعليم في مصر، ويومها أعلن بالحرف الواحد لقد جئت لكي توضع سياسة تعليمية ثابتة باسم الجالس لا باسم الوزير، وفِي أوائل التسعينيات أصدر الدكتور حسين كامل بهاء الدين وثيقة جديدة بعنوان "مبارك والتعليم نظرة إلى المستقبل" وطوال عهد الرجل في الوزارة، تغيرت الثانوية العامة أكثر من مرة وخرج بهاء وجاء الدكتور أحمد جمال الدين وتغيرت نظرته للمستقبل وللتعليم وبعده جاء ١٤ وزيرًا عبث كل منهما بالتعليم وبالسياسات حتى وصل الموكب للدكتور طارق شوقي وأضاف وألغى انتظارا لمن يأتي بعده ليعيد ما ألغاه.. ولك الله يا مصر.