رئيس التحرير
عصام كامل

ضحايا العالم الرقمي


التقنيات الحديثة ورطت الناس فصار كل إنسان يرى في نفسه الصواب، ولا تجانبه المعرفة وحسن الخلق والسمو، ولا يعترف بأنه مجرد إنسان يعيش على المتاعب والبلاءات، وأن هناك من هو أفضل منه.. فعلى "فيس بوك" يضع صوره الجميلة التي يلتقطها متأنقًا، ويظهر للناس كل ما هو جميل ويخفي قبحه، وكذلك يفعل البقية من الناس، ويتكلمون بكلمات معبرة عن روح إنسان لكنها تخفي مشاعر حقد ومرض ولا ينطق مثلها في البيت، أو مع أصدقاء ومقربين بمجالس خاصة.. هو يختبئ تحت عباءة العالم الرقمي الذي لا يظهر القبح.. الإنسان الرقمي العاجز عن صناعة الجمال في حياته الطبيعية، ويستعيض عن ذلك بجمال افتراضي لا يدوم يسبب له الكآبة والعزلة والشعور بالحزن والرغبة في الهروب إلى خيالات لا تغنيه شيئا.. كلنا هكذا صرنا.


في المنزل تنعزل الأسرة عن بعضها بحواجز كونكريتية غير مرئية لكنها تتجسد بسلوك ونظرات وطريقة نوم وطعام وشراب ولباس ومواقف، فكل شيء يتغير لدى أعضاء الأسرة ممن يستخدمون العالم الافتراضي مكانا لوجودهم وينشغلون به، حتى أعمال المنزل المعتادة لم تعد الأم تستطيع أن تحصل فيها على مساعدة من البنات، حيث يحتجبن عن الظهور، ويبقين في أسرتهن يستخدمن الموبايل وجهاز اللاب توب والآي باد كما يسمونها وربما أجهزة تواصل أخرى تتيح علاقات افتراضية غير محسوسة تؤثر في الوجدان من بعيد وتصنع، تغيرا في السلوك والنظرة إلى الأشياء، بينما يصبح الأولاد أكثر تعصبا وعدم رغبة في العيش الطبيعي كأفراد في الأسرة.

لا نعرف بالضبط كيف يمكن أن نجتاز هذه المرحلة من مراحل حياة البشرية الحافلة بالمتغيرات والتطورات غير المتوقعة مع ما تحمله من تأثيرات غير مسبوقة، وربما نحن بحاجة إلى زمن مضاعف لتتحول الحياة إلى شكل آخر لا تكون فيه مواقع التواصل الاجتماعي كما هي عليه اليوم من تأثير، أو قد يصيبنا الملل ونتحرك باتجاهات أخرى، أو نعود لنبحث عن الطبيعة والعلاقات الحميمة بين الأفراد، فما توارثناه من سلوكيات ومواقف وثقافات تتأثر بمرور الوقت بالكم الهائل من العصف التقني المؤثر في العقل والوجدان الجمعي، ولابد من تحرك ما لتقليل نسبة تأثيره فينا، أو إزاحته، والأدهى من ذلك أننا لا نعرف كيف يمكن أن تكون التطورات التقنية القادمة، والتي يمكن أن تصنع منا أناسًا مختلفين، وقد نصاب بمرض التوحد.. البشرية كلها ستصاب به بعد أن كان يصيب أفرادا معدودين.
الجريدة الرسمية