رئيس التحرير
عصام كامل

القاهرة.. «بدائية» تتحدى «المدنية»

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

في قلب القاهرة الكبرى، وسط ضجيج السيارات وأصوات الباعة والمارة، الحياة المدنية بكل تفاصيلها التي يظل فيها الازدحام والاختلاط والمشكلات اليومية هي السمة الأساسية لها. فرع ضيق من النيل يشق وسط هذه المدينة العملاقة، يشطرها ليخلق على الشطر الآخر حياة متكاملة، مقابلة للحياة المدنية.


هكذا تشكلت الجزر النيلية التي قد يصل عددها إلى نحو خمس جزر في القاهرة والجيزة، هذا الجزء الذي يحمل دائمًا لقب “الآخر”، مهما اختلفت المحافظة التي تتواجد بها حتى لو كانت في قلب العاصمة، فالحياة اليومية تكاد تتطابق لحد كبير.
تبدأ الحياة وتنتهى بهذه الجزر في شيء بسيط في تكوينه، لكنه ذو أهمية قصوى بالنسبة للآلاف ممن يعيشون فوق تلك الجزر، فإحاطتهم بالمياه من ثلاث جهات، أجبرتهم على أن يعتمدوا كليًا على “المعدية”، هذا القارب الصغير الذي يقف عند الجهة المقابلة للجزيرة منذ الصباح الباكر يفرغ ما في جوفه ليأتى بحمل جديد، وهكذا طوال اليوم.

تصل إلى الجانب الآخر وتشرع في الخوض في حياة مختلفة وتلتقى بأناس تتشابه وجوههم في هذه الجزيرة وتلك، وكذلك المهن التي يمارسونها، والحرف التي توارثوها أبًا عن جد، حتى أطلقوا على أنفسهم عبارة، كلما ذهبت إلى جزيرة تجدها على ألسنتهم، وقد حفظها الصغير قبل الكبير عن ظهر قلب وهي: “إحنا زى السمك لو طلعنا من المياه نموت.. والجزر بالنسبة لنا المياه والحياة”.

جزر القاهرة
“الروضة والوراق والقرصاية والزمالك، والذهب”، هكذا تسمى الجزر الخمس المحيطة بالعاصمة وضواحيها، تتباين مساحاتها ما بين شاسعة المساحات وبين الصغيرة نوعًا ما.

وتعد جزيرة الروضة هي أقدم تلك الجزر على الإطلاق، فحين دخلت الجيوش العربية لفتح مصر كانت موجودة، تقع على فرعى النيل الشرقى والغربي، وتقسم وسط القاهرة إلى شطرين أحدهما يسمى “منيل الروضة”، والآخر “المماليك”، وتبلغ مساحة هذه الجزيرة 3000 متر، تتخذ شكلًا بيضاويًا لافتا للانتباه، يربطها بالقاهرة خمسة كبارى واثنين بالجيزة، لتظل هي المتفردة بكونها كانت في عصر دولة محمد على وأبنائه.

أما جزيرة الذهب التي توجد بين القاهرة والجيزة، متخذة شكلًا بيضاويًا، وتبلغ مساحتها 650 فدانًا، ذات طبيعة زراعية في المقام الأول، ويقطنها نحو 11000 مواطن ومواطنة، يعملون في الزراعة وتربية المواشي، كمعظم سكان الجزر المجاورة لها.
أكبرهم وأكثرهم نشاطًا وذكرًا على الألسنة هي جزيرة الوراق، التي تقع كليًا في شمال العاصمة، في المنتصف بين شبرا الخيمة وإمبابة، لكنها إداريًا تتبع محافظة الجيزة، تبلغ مساحتها نحو 1385 فدانًا يقطنها 180 ألف مواطن، تختلف مهنهم بين الفلاح والصياد و”الصنايعي”.

أما جزيرة “القرصاية”، فتبلغ مساحتها نحو 140 فدانًا، وتعد أصغر جزر القاهرة الكبرى من حيث المساحة، وحتى الطبيعة المعيشية أكثر بساطةً من قريناتها، وتعد القرصاية جزءًا من جزيرة الذهب تتبعها إداريًا، يقطنها نحو 5000 شخص يعمل جميعهم في مهن الصيد والزراعة، فضلًا عن بعض الموظفين والحرفيين.

الحياة على جزيرة “القرصاية”
قارب صغير متهالك، تآكلت أرضيته وتراكم عليها الصدأ، فهو إرث توارثته الأجيال جيل وراء الآخر، لينتهى الأمر بعم محمد الصعيدى الذي يربت على سلسلة حديدية عملاقة ويجذبها نحوه في انسياب لتتحرك “المعدية” وفى أقل من دقيقة تجد نفسك عند الضفة الأخرى، حيث تقطن 30 أسرة كل أسرة قد تتكون الواحدة منها من 11 فردًا.
المعدية هي الخيط الوحيد الذي يربطهم بمنطقة الجيزة، وتقول إحدى ساكنات الجزيرة: “المعدية دى كل حياتنا لو المراكبى سافر ولا هي عطلت نموت جوه الجزيرة ومحدش يحس بينا”.

شباب ورجال في أعمار مختلفة يحملون على أكتافهم شبكة صيد متجهين إلى الجزء الصغير من نهر النيل الذي وهبتهم إياه الحياة ليكون محور حياتهم، من خيراته يأكلون ويتزاوجون ويشيدون البيوت والمحال، “معظم السكان في الجزيرة بيشتغلوا في حرفة الصيد وبيعه للمحال الكبرى وكبار التجار، إحنا البحر الصغير ده هو مصدر رزقنا”، هكذا يقول خالد، الشاب العشرينى الذي تعلم حرفة الصيد من والده وجده منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، ليس هو فقط من تعلمها في الصغر فهو يؤكد أن الولد وأحيانًا الفتاة حين يبلغان السادسة يصطحبهما والدهما إلى النيل لتعلم الصيد، وفى غضون شهر يتمكنان من تعلم المهنة.

وفى الناحية الأخرى من الجزيرة، الحياة تبدو أكثر هدوءًا وبساطة من الجانب المخصص للصيادين، فالخضرة تحتل المشهد بكامله، إلا بعض المنازل التي زُرعت في وسط الحقول، لتطل على المساحات الخضراء التي تتنوع ما بين الأرز والذرة وعدد من الأشجار، في وقت الظهيرة ينتهى اليوم عند سكان شطر الفلاحين من جزيرة القرصاية، فحين تتجول في حقولها في الثانية ظهرًا، يبدو المكان خاليًا من البشر، إلا القليل من السيدات اللاتى خرجن لغسل الأطباق في مياه النيل، لتغلق بعدها البيوت على من فيها.

الخدمات تكاد تكون منعدمة في القرصاية، فلا وحدة صحية ولا مدرسة ولا مكاتب حكومية بها، ويقول أحد سكانها: “احنا معندناش أي خدمات، حياتنا بدائية جدا، اللى بيتعب لازم يستنى المعدية، والمدارس برة في البحر الأعظم، علشان كدة الكل معتمد كليًا على المعدية”، فيبدو من هيئة البيوت ومهن أصحابها أن الزمن توقف كثيرًا عند جزيرة القرصاية، وكأن القرن الحادى والعشرين لم يطرق بابهم بعد.

جزيرة الذهب.. فلاحون رغم المدنية
نفس المشهد الذي اختزلته العين في مناظر بسيطة، يتجدد في جزيرة الذهب، التي يحمل أمرها مرافقة كبيرة، ففى مواجهتها يقع حى المعادي، ورغم ذلك لم تنجح عدوى المدنية بعد من التسلل مع سكانها في إحدى دورات المعدية، والانتشار داخل أرجائها الخضراء.
أبناء جزيرة الذهب يعمل معظمهم في الزراعة وجمع المحصول والمتاجرة فيه للباعة في الخارج، فمنذ الصباح الباكر يخرج المسن قبل الشاب إلى أرضه، يرعاها لتخرج كل مافيها من خيرات، ونادرًا ما تجد في هذا المكان الريفى البسيط أي مشكلات أو تعقيدات، “الناس هنا كلها عيلة واحدة”، فأرض هذا تتداخل مع جاره والبيوت معظم الوقت مفتوحة أبوابها للزائرين، لا يخلو مدخل بيت من سيدتين على الأقل تتناقشان في الأمور الحياتية اليومية”.

ضخامة عدد سكانها لم تمنعهم من الترابط والألفة فيما بينهم، ففى هذا المكان الذي تحفه المبانى العملاقة من الخارج، حيث الفنادق الفارهة والعمارات العملاقة، يحتفظ بالطابع الريفى رغم كل شيء، فمنظر متعارف عليه أن تسير وبجوارك فتى أسمر اللون يجلس على كومة برسيم يسحبها حمار صغير، أو سيدة تحضر أدواتها لعمل الخبز في المنزل.

“إحنا هنا بناكل اللى بنزرعه والطيور بنربيها وناكلها، مش بس كدة كمان بنبيع أطنان اللبن ومحاصيل البطاطس والبصل للتجار في الخارج”، بفخر واعتزاز تحدث أبو أحمد، عن جزيرة الوراق التي ولد بها هو وأجداده، فشيدوا نحو أربع بيوت كل أسرة تقطن بواحد، وأمامه قطعة أرض خاصة بصاحبها يزرعها ويرعاها في أيام إجازته، فهو مثل معظم سكان الجزيرة خاصة الشباب، يعمل بالأساس حرفي، في مهنة السباكة، لكن الزراعة هي الحرفة الأم التي تجمع شمل السكان مهما اختلفت الطبقة الاجتماعية أو الثقافية.
الجريدة الرسمية