رئيس التحرير
عصام كامل

السوري الثائر.. شاهد على عظمة الأزهر


لولا الأزهر لبقي الاحتلال الفرنسي في مصر فترة لا يعلمها إلا الله.. ثلاث سنوات قضاها شيوخ الأزهر الشريف وطلابه في الجهاد ضد الحملة الفرنسية.. ومن بين هؤلاء الطالب السوري "سليمان محمد أمين ونس الحلبي"، وهو الشاب الذي لم يكن قد أتم خمسة وعشرين ربيعا، لكنه سطر صفحة مشرقة في تاريخ القلعة الإسلامية، والوحدة بين مصر وسوريا.


ولد سليمان عام 1777م في قرية "كوكان" قرب منطقة "عفرين"، بمحافظة حلب بدولة سوريا، لأسرية كردية ذكرها المؤرخون باسم أسرة "أوس كوبار"، وكان والده يعمل في بيع السمن وزيت الزيتون. عاش سليمان في بلده إلى أن أتم العشرين من عمره، ثم أرسله والده إلى مصر ليدرس بالأزهر، حيث التزم رواق الشوام، وهو المكان الذي خُصص لطلاب الأزهر من بلاد الشام.

تتلمذ سليمان على يد الشيخ أحمد الشرقاوي، وأحبه الشيخ حبًا جمًا، وعلمه كافة العلوم الشرعية والدينية واللغوية، إلى أن ابتليت مصر بالغزو الفرنسي. تمكنت الحملة الفرنسية، بقيادة نابليون بونابرت، من احتلال مصر عام 1798. ومكثت بضعة أشهر يدعي قادتها أنهم مناصرو الشعب ضد ظلم المماليك، وأنهم ذوو حضارة مدنية لا تتعارض مع المقدسات الدينية المصرية، ولكن مع موقعة أبي قير البحرية وضرب الأسطول الفرنسي، سقط القناع وأظهرت الحملة ونابليون وجهها القبيح.

عندما اندلعت ثورة القاهرة الأولى في 21 أكتوبر عام 1798 تم ضرب الأزهر بالمدافع، وعمل الفرنسيون على إهانة الشعب المصري بكل طوائفه، خاصة الأزهريين. ومع تفاقم الأحداث في باريس هاجر نابليون سرًا إلى فرنسا، وكلف الجنرال كليبر بقيادة الحملة من بعده، وكان كليبر لا يحبذ البقاء في مصر لأن الظروف لا تسمح بذلك؛ فالوضع في فرنسا صعب، وبريطانيا تحاصرها بحريا، والدولة العثمانية تجهز نفسها، والأزهر يحرض على الثورة، والشعب يستعد للانتفاض.

ومع يناير سنة 1800 وبفشل معاهدة العريش بسبب إصرار الدولة العثمانية على رحيل الحملة بدون سلاح، ورفض كليبر لهذا الشرط لأنه سيكون بمثابة إعلان للهزيمة، صرف كليبر النظر عن فكرة الرحيل عن مصر، ومكث فيها 6 أشهر عاث خلالها فسادا في مصر.

وهنا ظهر سليمان الحلبي مع زملائه الشوام، والذين ذاقت بلادهم في حيفا وعكا وحلب لهيب نيران الحملة، فاعتزم هو وزملاؤه الفتك بكليبر.. كانوا أربعة طلاب من قراء القرآن، هم: محمد وعبد الله وسعيد عبد القادر الغزاوي، وهم من فلسطين، وأحمد الوالي، وخامسهم سليمان الذي أخبرهم بقراره الأخير وهو قتل كليبر.

وفي صباح 14 يونيو 1800 توجه سليمان الحلبي إلى الأزبكية، حيث كان الجنرال كليبر يقيم في قصر محمد بك الألفي الذي استولى عليه بونابرت، وأقام فيه، ثم سكنه كليبر بعد رحيل بونابرت إلى فرنسا.

دخل سليمان حديقة قصر الألفي، وهو يرتدى رداء شحاذ، ووجد كليبر واقفًا، وبجواره كبير المهندسين الفرنسيين قسطنطين بروتاين، واقترب الحلبي من كليبر يسأله مالًا، فلوح بيده رافضًا، وهنا أمسك سليمان بيد كليبر، وتمكن من طعنه بالسكين التي اشتراها من غزة أربع طعنات قاتلة في كبده، وسرته، وذراعه اليمنى، كما تمكن من طعن كبير المهندسين ست طعنات غير قاتلة.. ثم سارع بالفرار إلى الخارج إلا أنه أُلقي القبض عليه، بعد أن تمكن اثنان من العساكر الفرنسيين، منه في الحديقة، ومن العثور على السكين التي نفذ بها مهمة القتل.

وقررت المحكمة الفرنسية الحكم بإعدام سليمان الحلبي بالخازوق، وأحمد الوالي ومحمد وعبد اللّه وسعيد عبد القادر الغزي بالإعدام، وفصل رءوسهم عن أجسادهم، على أن يتم قطع رءوسهم أمام سليمان قبل إعدامه.

وفي الساعة 11.30 من يوم 28 يونيو 1800م، نُفذ حكم الإعدام في الفلسطينيين الثلاثة أمام عيني سليمان، ثم حرقت أجسادهم حتى تفحمت، ثم غرس وتد الخازوق في سليمان، فوق تل حصن المجمع "تل العقارب"، حتى خرج من فمه، ثم ترك جثمانه الطاهر عدة أيام، تنهشه الطيور عقب دفن جثة كليبر.

وحمل الجنرال "مينو" معه إلى باريس عظام كليبر في صندوق، وعظام سليمان في صندوق آخر، وبعد إنشاء متحف الشهداء بالقرب من متحف اللوفر في باريس، خصص في إحدى قاعات المتحف اثنان من الرفوف: رف أعلى وضعت عليه جمجمة الجنرال كليبر، وإلى جانبها لوحة صغيرة مكتوب عليها: "جمجمة البطل" الجنرال كليبر، ورف أدنى تحته وضعت عليه جمجمة سليمان الحلبي، وإلى جانبها لوحة صغيرة مكتوب عليها: "جمجمة المجرم".

والسؤال: لماذا لا ينشئ الأزهر متحفا لعرض تاريخ بطولاته، وصفحاته الناصعة، وأبطاله من شيوخ وطلاب؟!.. لا شك أن ذلك سيكون أنصع دليل في مواجهة الاتهامات بصناعة الإرهاب.
الجريدة الرسمية