رئيس التحرير
عصام كامل

أقصانا هناك وأقصاكم هنا


في كل يوم تطالعنا الأخبار عن سقوط العشرات من قتلى إخواننا في فلسطين في مواجهات دموية يرتكبها الاحتلال الصهيوني ضد الأطفال العزل المدافعين عن أرضهم ومقدساتهم.


وأختص جيلي من أبناء أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، الذين عاصروا الانتفاضة الفلسطينية الثانية في 28 سبتمبر عام 2000، وأذكر وقتها أني كنت في المرحلة الابتدائية، وطالعتني الأخبار بوجود قصف في فلسطين وسقوط شهداء وجرحى وأسرى، ورغم حداثة سني، إلا أنني وجدتني وعشرات من أبناء جيلي (زمايلي في المدرسة)، نخرج في تظاهرة تجوب شوارع قريتنا الصغيرة، رافعين الأوراق البيضاء مرسوم عليها علم فلسطين (لم نكن وقتها بمقدورنا شراء الأعلام)، وقتها لم يكن يشغل بالي التفكير في الأمر إلا الخروج في تظاهرة لنصرة الأقصى، وقررنا (نحن الأطفال) الخروج في مظاهرة لم يكن الغرض منها توصيل صوتنا لأحد، فلم يكن حتى أهالينا في منازلهم على علم بما نفعله في الشارع (إلا الذهاب للمدرسة ويتخلله فاصل من لعب الكرة).

واليوم وبعد مرور 17 عاما كبرت وتيقنت أن ما دفعنا للخروج في مظاهرة منددة بالاحتلال الصهيوني، دون أن نعرف ماذا تعني كلمة فلسطين من الأساس، وما الذي يفرق المسجد الأقصى عن غيره من المساجد التي نتردد عليها في بلادنا للصلاة، ولكنه وازع من عروبتنا كان المحرك لذلك.

اليوم وبعد أن نضجنا وعرفنا ماهي القدس وقيمة المسجد الأقصى الذي بمثابة رمانة الميزان بين المقدسات الدينية، لم نعد نخرج أو ننتفض، بل إن الكثير منا مكتفٍ بالتنديد والشجب من وراء شاشة مواقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» و«تويتر»، كما هو حالي الآن، مكتفٍ بكتابة سطور إدانة وندب على عمر فات وولى، فجميعنا أصبحنا «عبيدًا للكيبورد».

ولم يكن تجردنا من المشاعر التي تحركنا لنصرة أقصانا، فقط ما تجعلنا نشعر بالخزي، بل وصل الأمر أننا وجدنا من أبناء عروبتنا من يجادلنا ويصف ما يحدث من قبل المقاومة الفلسطينية ضد المحتل بأنها أعمال إرهابية ضد العزل، فبأي منطق أقبل بمغتصب وأجد له المبرر ليرتع في بيتي وينتهك مقدساتي، فهؤلاء المتشدقون بحقوق الإنسان عليكم بمراجعة التاريخ، منذ أن سعى الصهاينة بعد حصولهم على وعد بلفور في 2 نوفمبر 1917 إلى تصوير فلسطين على أنها أرض بلا شعب،‍‍‍‍‍‍‍‍‌‌‌‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ولكي يحققوا ادعاءهم هذا لجئوا إلى أسلوب تقتيل أبناء الشعب العربي الفلسطيني لإفراغ فلسطين من أهلها ولإجبارهم على ترك وطنهم.

فتاريخ المذابح طويل بدءًا من مذبحة بلدة الشيخ حينما اقتحمت عصابات الهاجناة، في 31 ديسمبر 1947، قرية بلدة الشيخ «يطلق عليها اليوم اسم تل جنان» ولاحقت المواطنين العزل والتي أدت إلى استشهاد العديد من النساء والأطفال حيث بلغت حصيلة المذبحة قرابة الـ 600 شهيد وجدت جثث غالبيتهم داخل منازل القرية، وتلتها مذبحة دير ياسين في قرية دير ياسين، التي تقع غربي القدس في 9 أبريل عام 1948 على يد الجماعتين الصهيونيتين: أرجون وشتيرن، وراح ضحية هذه المذبحة ما بين 250 إلى 360 ضحية تم قتلها وفقًا لمصادر عربية، بينما تذكر المصادر الغربية أن العدد لم يتجاوز 109 شهداء _في كلتا الحالتين مذبحة ضد الإنسانية_، مذبحة أبو شوشة بدأت المذبحة، 14 مايو 1948 في قرية أبو شوشة القريبة من قرية دير ياسين فجرا، راح ضحيتها 50 شهيدا من النساء والرجال والشيوخ والأطفال.

وفي 23 مايو 1948م هاجمت كتيبة 33 التابعة للواء الكسندروني، قريةَ طنطورة، احتلت القرية بعد عدة ساعات من مقاومة أهالي البلده لقوات الاحتلال الصهيوني, وفي ساعات الصباح الباكر كانت القرية كلها قد سقطت في يد جيش الاحتلال، وانهمك الجنود الإسرائيليون لعدة ساعات في مطاردة دموية شرسة لرجال بالغين بهدف قتلهم، في البداية أطلقوا النار عليهم في كل مكان صادفوهم فيه؛ في البيوت، في الساحات، وحتى في الشوارع، وبعد ذلك أخذوا يطلقون النار بصورة مركزة في مقبرة القرية، وخلفت مذبحة الطنطورة أكثر من 90 قتيلًا دفنوا في حفرة كبيرة، وفي المقبرة التي دفنت فيها جثث القتلى من أهالي القرية في قبر جماعي، أقيمت لاحقًا ساحة لوقوف السيارات كمرفق لشاطئ "دور" على البحر المتوسط جنوبي حيفا.

غيرها وغيرها من المذابح فأقصانا في غنى عن أن نسرد مآسي المدافعين عنه ونتشدق بكلمات معسولة تشجب وتدين وتندد، ولكن رسالتي لهؤلاء متحجري القلوب الذين كلما واتتهم الفرصة للوقوف أمام الكاميرا يذرفون دمعًا على الأقصى، وكأنهم لا يتذكرونه إلا أمام كاميرات التصوير، فها هو أقصانا المدافعون عنه هناك، ولكن أقصاهم المتباهون والمتاجرون بدم أبنائه، هنا أمام شاشات الفضائيات.
الجريدة الرسمية