رئيس التحرير
عصام كامل

أحمد الشيخ يكتب: داعش

فيتو

ظهور تنظيم ( داعش) هذا الكيان الملغز القادم من الهامش إلى صدارة الصحف وشاشات التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي دفع الكثيرين للتمحور حوله كظاهرة فرضت نفسها على الساحة والتركيز عليها بل وصل الأمر إلى انتظار بياناتها التي تعلن فيها عن تبنيها لأحداث عنف هنا وهناك الممهرة بعلامتها التجارية الداعية للعنف في كل وقت وحين. 


إلا أنه نتيجة لقلة البيانات والمعطيات والأرقام المقاربة للحقيقة عن طبيعة هذا التنظيم وبدايته وأهدافه، وصورة اليد المحركة له في الخلفية القاتمة، وإمكانياته والتركيبة العقلية لأفراده، فتح مساحات من الخيالات الواسعة والبعيدة والتي قد تكون أحيانا متضاربة ومساحات للمغامرة بالكتابة والتحليل التي قد تكون محاولتي هذه واحدة منها. 

(1) التغيير العنيف والدين الحنيف!
ينظر البعض إلى الإسلام وكأنه معطى قائم بذاته منفصل عن الزمكان، وينتعش التنظير هنا حول علاقة داعش بالإسلام والجهادية فيؤكد البعض أن داعش تعكس وتجسد هذا المعطى في أنقى صوره التي تميل إلى تطهير الإنسان وتطهير المجتمع، وينفيها آخرون في موقف دفاعي معلنين أن ذلك لا يمثل الإسلام الحقيقي الذي يرونه من نفس زاوية المسلًمة السابقة- أنه معطى قائم بذاته خارج عن الزمكان- متخيلين له صورة ثابتة حقيقية ونسخ أخرى مشوهة، كل فرد في هذا (البعض) يتوهم أن النسخة التي بيده هي الأصل والآخرون مشوهون، تقول أنت عزيزي القارئ الآن "إنهم لا يمثلون إسلامًا متطرفا.. بل أسلمة ً للتطرف". 

داعش يجمعها مع آخرين من المروجين لفكرة إرهاب الآخرين من الأيدلوجيات السياسية المؤمنة أن التغيير يلزمه عنف سواء كان عنفا منظما ممنهجا أو عنفا فوضويا، أكثر ما يجمعهم بهموم المسلم العادي الذي يردد عبارات الجهاد لكنه لا يعرف عنها سوى صور لفرسان وخيول وسيف، يعجز هذا المسلم عن تقديم تفسير كاف لسلوك هؤلاء سواء بالسلب أو الإيجاب. 

حين يسأل نفسه لماذا لا يهتم هؤلاء المجاهدين بهم من هموم المجاهدين الذين يعرفهم في مخيلته كالقضية الفلسطينية مثلا، لماذا يفتقدون الرابطة الوجدانية الحقيقية مع بلاد– بعضهم- الأم من الدول التي تصنف كمسلمة، يبدو أنهم تذكروا أنهم مسلمون حديثا أو أنهم كانوا يتيهون في غياهب الحانات وفجأة اشتد وطيس الغضب والحمية على الخلافة الإسلامية المنشودة.

(٢) "عصبية حديثة"

النزعة الداعشية الجهادية الحديثة ترى في نفسها  "عصبية حديثة" أكبر من شكل الأسرة والعشيرة والقبيلة وتنطوي على نزعة التملص من كل انتماء أو علاقة تنافس تلك العصبية الجديدة يعبر عن تلك الثقافة (فيديو الابن الذي ينحر أباه). 

هو حين ينحره هنا ينحر الرمزية يقتل سلطة الأسلاف القريبين واستبدالهم بأسلاف أقدم وعصبة تجمعها روابط حديثة يراها أقوى، يجد في نفسه حاجة إلى طمس كل معالم هذا العالم الذي لا يتماشى وصورة العالم الذي في مخيلته يتمنى أن يهدم هذا العالم المتناقض المتشعب المعقد الذي قد لا يقوى هو على فهمه واستيعابه فقرر استحضار الماضي وفرضه على الحاضر، قرر العبور الزمني نحو السلف الأول والقرن الأول الذي يحمل منه في جعبته ما أكثره لا علاقة له بالدين بالأساس.

(3) العنف الداعشي غاية أم وسيلة؟!
من الملاحظ أن التنظيم في بياناته يكرر فكرة إثارة الرهبة في نفوس الخصوم لكن لا يعقل أن يكون غاية العنف الذي يمارسه داعش استعراضية وفقط، لا بد من رسالة يراد توصيلها وأهداف يراد تحقيقها أيضا لا شك أن في العالم أبناء من أبناء آدم يتبنون عقيدة جهادية عن وعي ومعرفة تامة بمحتواها ومرتكزاتها وأصولها ويحفظون كتبها حرفيا، لا بد أن داعش كتنظيم يحوي بعضا منهم لكن سر قوته الأكبر هو نجاحه في جذب العاطلين والمترددين ممن لديهم نوازع عنفية دفينة وإغراء الباحثين عن كسب المنزلة والمكانة والباحثين عن مصادر القوة والاستقواء من المبتدئين في إسلامهم، بسيط التفكير وتستطيع أن تقول معقوفي التفكير.

تاريخيا الحركات السياسية اليمينية شاهدت صنفين من التيارات منها تيار إصلاحي لا يجد غضاضة في الانفتاح على نتاجات الحداثة ولا مانع في المرونة في تفسير النصوص، وآخر يتشكك في التسويات ويراها تفقد التيار الديني اليميني محتواه، أي معتدلين براغماتيين، ومتطرفين عقائديين، النوع الثاني إن ذهب إلى مزيد من التشدد والتطرف كان ملجأ للعنف المؤدلج. 

أيضا الراديكالية لا تقتصر على اليمين فقط، لكن اليسار على نهاية مد الخط على استقامته تجد راديكالية شديدة العنف لا ترى إلا السلاح كطريق للوصول، إذا فالحداثتين إقصائيتين وذلك لن يؤدي في النهاية إلا إلى نتيجة واحدة وهي خسارة الحداثة الحقيقية، هذا المشروع الإنساني المرجو قيامه على الحقوق والحريات والانعتاق من أشكال الإخضاع على اختلافها.

(4) الحداثة البديلة!
لا شك أن أدلجة الدين تؤدي بالضرورة إلى تحولات وتغيرات في هذا الدين الذي يظهر بعدها شيء آخر مختلف ليصبح نظاما سياسيا شموليا يحتكر الحقيقة المطلقة في إعادة لتعريف الهيمنة والإقصاء محاكيا في ذلك أسلوب الحداثة التي ينتقدها في أيدلوجيته الحديثة.

يعتقد داعش أنه سيحدث تغييرا جيوسياسًا في العالم يأخذه من اللاشيء واللاوجود إلى كونه ظاهرة تحكم العالم. 
رغبة تحدي الوضع القائم وإن كان بأدوات عنيفة، سمح بتنظيم "الميول الراديكالية العنيفة" في الفعل السياسي، والذي فتح الباب أمام الحكومات لارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان بدافع محاربته، وفتح الباب أمام إنتاج السلطوية كضرورة لأزمة لحفظ النظم الاجتماعية وجعل من السلطوية شيئًا مقبولا يمتلك خطابا سياسيا يتمركز على منع إشاعة الفوضى ووقف العنف.

الحكومات والأنظمة لم تعد تمتلك حجة لدعوة المجتمع إلى السكون والخضوع سوى التلويح بعهد جديد من العنف مستحضرة الأزمات العربية في الشرق الأوسط كمثال للترويع، وفي المقابل لذلك لا نجد نجاحا للتغيير العنيف في محاولاته المتكررة وصوره المتعددة إلا أنه أعطى لمعظم النظم السياسية فرصة لتشديد القبضة الأمنية وإدامة حالات الطوارئ، وتكريس فكرة الحل الأمني كطريق وحيد للمعالجة على الرغم من فشلها في الثمانينيات كحل منفرد ولم تمنع من اللجوء إلى أفغانستان والقاعدة كملاذ.

وأخيرا ولأن الأخلاق السياسية ليست ما يحدد خيارات العرب ولا الغرب ولأن الخلاف بالأساس هو خلاف على السلطة والريع فلن تجد ساطعا في سمائها إلا النهب والقنص وانهار الدم المصفوفة المنظومة على الأبواب.
الجريدة الرسمية