رئيس التحرير
عصام كامل

نكبة التعليم ويوم القيامة السنوي


بيوت كثيرة في كل مصر لم تنم منذ أول أمس، من شدة الفرح أو من شدة الحزن، أو من شدة الحيرة، حسب درجات المجموع التي حصل عليها الطلاب في امتحان يوم القيامة المصري، المعروف بالثانوية العامة، وأيا ما كانت حدة الزغاريد أو حدة اللطمات على الخدود، فإن أمرًا آخرًا يستحق المندبة والتعديد والعويل، وهو وفاة اللغة العربية، وانتهاء أمرها بمعرفة الأهالي والوزارة والمجتمع!


وقبل أن أخوض في هذه النكبة التي اتعامل معها في تدريسي للكتابة الإبداعية والترجمة الإعلامية بعدد من كليات الإعلام في جامعات مصرية، لفت نظرنا جميعا أن معظم المتفوقات من الأقاليم، ولم يكونوا من مدارس الإنترناشيونالات، والكوليدج والبريتش والفريتش والكنديش، وأي اسم غربي آخر، له منشأة تهليبية على طريق التسعين أو طريق مصر الإسماعيلية محور سعد الشاذلي.

الأسرة المصرية المتوسطة العليا وحتى ما تحتها، دأبت على إلحاق الأولاد بالحضانات التي تلقن الإنجليزية أو الألمانية أو الفرنسية، ومصروفات بعض الحضانات الدولية تبلغ أرقاما تتجاوز مصروفات طالب جامعي في كلية خاصة، وتفرح الأم بابنها يردد بنباهة واحتراف: yes mom. Oh mom. Am hungry. Love you dad. ويتدرج في التعليم ويدخل جامعة، ومستواه في الإنجليزية هو لكنة مضغومة، وبضع كلمات يومية يلوكها بخيابة، وعجز كامل عن كتابة أي كلمة عربية بحروفها العربية، بل يكتبها بالحروف اللاتينية، وما أقوله تعرفونه في بيوتكم، وأعرفه في بيتي، وما زلت أخوض معركة مع أحد أبنائي للكف عن الكتابة لي بالحروف الإنجليزية!

والحق أنني أشعر بالأسى والأسف الشديدين لانهيار تعليم اللغة العربية واللغة الإنجليزية، وخلال الخمس سنوات الماضية، أحزنني، بل رفع ضغط دمي لحد الامتلاء والتجلط، لولا ستر الله، أنهم لا حصلوا الإنجليزية التي باعوا العربية من أجلها ولا حصلوا اللغة العربية التي هجروها من أجل عوجة اللسان واكتساب لغة للتخاطب مع العصر والحصول على وظائف مرموقة، والموسم التعليمي الماضي، كنت أدرس مادة الترجمة الإعلامية، وحين أذكر معنى الكلمة باللغة العربية يذهلني أن المعنى العربي ذاته محتاج ترجمة للطالب!

كانت بالنص كلمة allegations وترجمتها ادعاءات أو مزاعم، وطبعا رحت أتهجى الحروف حرفا حرفا لأن الإملاء أيضا فضيحة، وإذا بطالبة تسألني: يعني إيه مزاعم مش فاهمة؟!

ضربت جبهتي بيدي ودارت نظراتي في عيوني، وتساءلت بصوت عال عن نوع الكوكب الذي هبطت منه.

وشرحت وأفضت، ونصحت بالقراءة وضرورة تلقي دروسا في النحو والإملاء ولو من مدرس ابتدائي، الحق أن هذه المصيبة والفضيحة ليست مقصورة على طلاب الجامعة، فنحن نشعر بالعار والوخز إذ نستمع إلى حيثيات حكم يلقيها مستشار جليل، يتعثر في اللغة، صرفا ونطقا، وبناء، وكان القضاة الأجلاء من قبل والمحامون الكبار والنيابة يمتعوننا بلغة رصينة وقورة مضبوطة قوية الحجة، بلا أخطاء في النحو، ولماذا نذهب بعيدا فأمامنا مثال صعب مزر هو لغة الدكتور علي عبد العال الذي يحطم اللغة العربية بجهل فاضح فادح، وهو مصمم على ألا يتلقى فيها دروسا لمحو أميته المخجلة، ونعجب كيف مر بكل سنوات التعليم والدكتوراه وهو لا يعرف قواعد اللغة العربية؟!

وزراء ومسئولون فضحوا أنفسهم وكشفوا أنهم أعداء للقراءة، التي هي بيت الزاد والمعرفة وحسن نطق اللغة، النخبة الخائبة المصرية تنفق أموالا باهظة على تعليم أولادها الجهل باللغتين العربية والأوروبية، تلك هي المسئولية الأولى، أما المسئولية الثانية فهي أن الجهلة من إعلاميين يتبجحون يتجرأون على اللغة، ويتعاملون معها باعتبارها حذاءً في أقدامهم.

نعم التعليم في مصر كارثة، لكن القضاء على اللغة العربية بفلوسنا ومدارسنا ووزاراتنا ومسئولينا هي أم الكوارث.

إن لغة الوطن هي الوطن، والتبرؤ والاستعلاء على لغة الوطن، يعني انحلالا في العقيدة الوطنية، الانتماء للتراب الوطني يتخلق مع رضاعة الحرف العربي وحفظه ونطقه سليما، أمة تفقد لسانها هي أمة بلا هوية.

الجريدة الرسمية