فيها حاجة حلوة.. صلاح عطية
وهب حياته للعمل الخيري القائم على الجهود الذاتية، فأثمر مؤسسات تعليمية وتربوية واجتماعية لم تكلف الدولة شيئا، وأرسى سلوكا تكافليا، واختفت مظاهر الفقر والحرمان والبطالة والمرض في محيطه، جسدت حياته حقيقة حيرت المنظرين، وهي أنه بقدر الإيمان بالفكرة والعمل لها فإنها تؤتي ثمارها مهما تواضعت الإمكانيات، إنه المهندس صلاح عطية الذي حارب الفقر بالفقراء، فلم يكن من أثرياء قريته (تفهنا الأشراف، ميت غمر، دقهلية) حيث ولد فقيرا في قرية فقيرة مثل غالبية قرى مصر.
لم ينتمِ إلى حزب أو جماعة ولم يكن حكوميا ولم يسع طيلة حياته الحافلة بالعمل الخيري إلى مقابل أو شهرة أو مجد، ولم يعرف عنه بلاغة الخطابة، فعباراته البسيطة استنهضت الرصيد الخيري في نفوس من حوله، وفجرت فيهم الطاقة الهائلة للعمل بعيدا عن زخرف القول، عاش صلاح عطية في بيئة زراعية، ومنها انطلق ليزرع المعاني والقيم التكافلية في محيطه، حيث بدأ هو وتسع آخرون في نفس ظروفه مشروع دواجن وأسهم كل منهم بـ200 جنيه وكانوا في حاجة إلى شريك عاشر..
جاء عطية يبشرهم قائلا "السهم العاشر سيكون لله، الله سبحانه له عشر الأرباح" فوافق الجميع وأطلقوا عليه الشريك الأعظم، وبدءوا المشروع وحققوا أرباحا لم تكن في حسبانهم، فقرروا زيادة نصيب الشريك الأعظم إلى 20%، وتوالت الزيادة سنويا حتى وصلت نسبته إلى 50%.
خصصوا أرباحها للمشاريع الخيرية بقريته "تفهنا الإشراف" بدأ بحضانة مجانية، ثم بناء معهد ديني ابتدائي للبنين، ثم آخر للبنات، ثم معهد إعدادي للبنات، ثم آخر للبنين، ثم معهد أزهري ثانوي للبنات، ثم آخر للبنين.
بدأ صلاح عطية التفكير في إنشاء كلية جامعية للشريعة والقانون، تلتها كلية للتجارة بنات ثم كلية لأصول الدين ثم كليه للتربية، فأصبحت قرية تفهنا الإشراف أول قرية مصرية تقام فيها جامعة.
وأسهم أهالي القرية بالتبرع في إقامة تلك المنشآت حسب استطاعتهم، بداية من المشاركة في أعمال البناء إلى التبرع بالمال، وهكذا كلما توسع النشاط الإنتاجي توسع النشاط الاجتماعي، حيث أنشأ محطة قطار أيضا بالجهود الذاتية، وبيت طالبات يسع 600 طالبة، وبيت طلاب يسع 1000 طالب بالقرية.
توسع في إنشاء لجان متخصصة للتنمية فهذه لجنة للزراعة لبحث كيفية زيادة إنتاجية المحاصيل، ولجنة للشباب تختص بشغل أوقات فراغهم، ولجنة للتعليم لرفع المستوى التعليمي بالقرية، ولجنة للصلح في الخلافات المتنوعة..
صلاح عطية حصر الأرامل والمطلقات وأعطائهن المواشي والأعلاف وللفتيات والسيدات ماكينات خياطة واشترى لأصحاب الحرف أدواتهم وفتح متاجر لمن لا مهنة له، وكانت النتيجة أنه لم يعد بالقرية عاطلا ولا فقيرا، لم تقتصر جهود صلاح عطية على قريته، بل امتدت إلى كل قرى مصر وفجر الطاقة الخيرية في نفوس البسطاء فأسهموا بأموالهم القليلة حتى لو كانت دجاجة ومن لا يمتلك المال تبرع بجهده للعمل كل حسب حرفته.
صلاح عطية غير معادلة التنمية في مصر، حيث تتركز المشاريع التنموية الحكومية على العاصمة والمدن بعيدا عن الريف والقرى إلا في المواسم الانتخابية عندما تكثر الوعود التي سرعان ما تتبخر ليظل الريف منسيًا ومهملًا في جميع المجالات التعليمية والصحية وغيرها.
فارق صلاح عطية الحياة في يناير 2016 وهو في عمر السبعين عاما قضاها في أعمال الخير دون رغبة في مال أو شهرة أو دعاية أو نفوذ، مات، ولكنه ما زال يؤجر عن أعماله الصالحة الباقية إلى يوم الدين، وكانت جنازته المهيبة "عليه رحمة الله" واحدة من أهم الجنائز في تاريخ مصر، وتؤكد أنه كان رجلا صادقا مع الله فحظى بحب البشر وخالقهم، أنه نموذج إيجابي من آلاف النماذج الموجودة في البلد، ولكن لا يشعر بهم أحد، ولم ولن يعرف طريقهم الإعلام.