رئيس التحرير
عصام كامل

الفول والشاكرية والدولمة


تتراكم الحضارات وينطبع تاريخها في نفوس الشعوب حتى إذا تحولت المدن إلى ركام.. وبينما كانت القوات العراقية تحرر مسجد النوري في مدينة الموصل من داعش، كان بشار الأسد يؤدي صلاة عيد الفطر بمسجد النوري في مدينة حماة.. وهي المساجد التي أقامها نور الدين محمود، الملقب بالملك العادل، قبل تسعة قرون بعدما انطلق من حلب ليوحد مدن الشام تحت سلطانه ثم يضم مصر ممهدًا بذلك الأرض أمام انتصارات صلاح الدين على الصليبيين التي لم تكن لتتحقق لولا إنه ورث الدولة النورية في الشام والدولة الفاطمية في مصر..


جاءت زيارة بشار الأسد لمسجد النوري بحماة لتدل على الاستقرار النسبي للأوضاع، بينما دمر تنظيم "داعش" مسجد النوري بالموصل ليؤكد رغبته في تفريغ المنطقة من مقوماتها التاريخية، وتزامنت أحداث سوريا والعراق مع احتفالات مصر بالذكرى الرابعة لثورة يونيو التي أزاحت تنظيم الإخوان الإرهابي لتحافظ على هوية الدولة، وتمنع سقوطها في جحيم الحرب الأهلية..

مات "نور الدين محمود" وهو يعي جيدًا أهمية صلابة محور مصر والشام لصد خطر الصليبيين، وبعد قرون من رحيله أصبحت الحملات الصليبية جزءا من ماض صعب، بينما الاحتلال الإسرائيلي جزءا من حاضر مرفوض، ومع اختلاف الأعداء نسينا حكايات "نور الدين محمود" لننشغل في القرن الماضي بقصة "محمود نور الدين" الذي اغتال جواسيس إسرائيل وأعضاء المخابرات الأمريكية بمصر..

ولأن أحداث التاريخ تتكرر، فبعد القبض على "محمود نور الدين" وكشف تنظيم ثورة مصر الذي أسسه وتوجيه الاتهامات لنجل الزعيم عبدالناصر فقد سافر الأخير واستقر به المقام لفترة في يوغوسلافيا التي احتضنته وفاءً لذكرى والده مثلما رفض الخليفة العباسي المستضيء بأمر الله أن يعطي لصلاح الدين حكم الشام بأكمله، واستثني منه حلب وأعمالها للصالح إسماعيل نجل نور الدين محمود تكريمًا لمآثر والده.

بعد القبض على تنظيم ثورة مصر عايشنا سنوات من الفساد والتجريف جرت خلالها مياه كثيرة في أنهار النيل والعاصي ودجلة والفرات، ثم بدأ الربيع العربي بلحنه الجنائزي ورائحة الدماء التي تميزه لتتزايد التهديدات حولنا حتى أصبح التفريق بين الأعداء والأصدقاء داخل الوطن الواحد أصعب من المواجهات في ساحات القتال، ولكن رغم سنوات الفوضى فإن ثورة يونيو قد جففت النزيف وأوقفت الانهيار التام ليمنع الفول المصري ضياع الشاكرية السورية والدولمة العراقية للأبد.. والآن يمكن القول إن مصر تتعافى رغم المصاعب، وسوريا صامدة رغم المؤامرات، والعراق تتحرر رغم الإرهاب ومهما تدمرت المدن العربية ونالها الضعف، فما زالت نفوس السكان تحتفظ بدروس التاريخ وتراكم الحضارات وبها سنُعيد البناء.

الجريدة الرسمية