رئيس التحرير
عصام كامل

مباشر إلى السيد الرئيس


بعد موجات الغلاء التي صاحبت قرار تعويم الجنيه نشرت في هذا المكان تحديدًا مقالًا أعده مهمًا، تناقلته معظم المواقع الإلكترونية، كان عنوانه" على من تعلنون الحرب الفقر أم الفقراء؟! وكان من المفترض أن أعيد عليكم قراءة هذا المقال، تمشيًا مع هذا التوقيت الساخن الذي تمر به البلاد، والذي تتشابه ظروفه مع الأحداث التي دفعتني إلى كتابة المقال، لكنني فضلت كتابة مقال جديد، استكمالًا للمقال السابق.


فلا أنكر أنني كنت ولا زلت من المساندين للدولة، لكنني أيضًا لا أنكر عجزها عن تحقيق معدلات التنمية والنمو الاقتصادي المنشود، لا أنكر أنني كنت ولا زلت ضد أي دعوات لثورات أو حتى تظاهرات ولو كانت فئوية؛ لإيماني بأن الثورات على مدار التاريخ الاجتماعي في مصر لم تفضِ سوى إلى خراب، لكنني استنكر عدم سماع الحكومة لصراخ الفقراء وربما لاستغاثاتهم عبر الدراسات والمسوح الاجتماعية، وعلى صفحات برامج التواصل الاجتماعي وعلى شاشات الفضائيات!

لا أنكر أنني معجب بذكاء الرئيس وعزيمته الفلاذية وقلبه الجرئ، لكنني استنكر جرأته على بطون البسطاء من الشعب.. فلا أستطيع أن أنكر حجم المشروعات التي نفذت في عهده، لكنني لا أستطيع أن أنكر أن حجم ما أنفق على هذه المشروعات يزيد على عوائدها التنموية بكثير، وأن احتمالات فشل بعض منها وارد ولو بنسبة، فعلى الرغم من كثرة هذه المشروعات وضخامة الأموال التي ابتلعتها، فإنها لم تؤت ثمارها حتى الآن، بل تشير الإحصائيات إلى تراجع رهيب في معدلات النمو الاقتصادي التي وصلت إلى 3.8 % في بدايات 2017م بعد أن كانت 4.2% في العام الماضي، طبعًا مقارنة بمعدلات النمو السكاني التي تجاوزت هذا العام 2.8 %!

مما جعل شبكات الحماية الاجتماعية لم تعد كافية لتلقي سواقط التغيير، من الفئات التي عجزت عن التكيف مع الشروط الاقتصادية الراهنة، فمثلا ما تنفقه الدولة من الموازنة العامة لعلاج " فيروس سى" يساوي ثلاثة أضعاف ما ينفق على برامج الحماية الاجتماعية.

ففى حين تنفق الدولة 7.2 مليار جنيه على برامج الدعم النقدي تنفق 22 مليار جنيه سنويًا على علاج فيروس سي، ومن ثم فقد تحولت أهداف الحماية الاجتماعية من مواجهة الفقر إلى إنقاذ الفقراء من المجاعة..! ناهيك طبعًا عن تراجع مخصصات التعليم والصحة في الموازنة العامة للدولة وأن نسبة الذين يتلقون تأمين صحي لا تتجاوز 30%، و20% من السكان لا يتلقون أي رعاية صحية، وأكثر من 2 مليون مصاب " بفيروس سي" يموتون سنويا لعدم قدرتهم على العلاج!

فلا شك أننا بتنا مجتمعًا مريضًا تنفق فيه الأسر أكثر من 55.6 % من دخلها على العلاج.. ولهذا فموجات الغلاء المتتالية وغير المدروسة ربما لا تفضي سوى إلى مزيد من العجز والمرض ومن ثم الموت!

لأ أنكر أيضا على الرئيس أنه تـسَلًّمَ من سابقيه دولة محملة بالديون والأزمات والكوارث، وأنه تسلم أيضًا دولة كاد نسيجها الداخلي أن يتمزق، وأن ملفاتها الأمنية والاقتصادية كانت مهلهلة، ولا أنكر أنه نجح إلى حد بعيد في إنقاذ الملف الأمني، لكنني اعترف والإحصائيات شواهد عدل أن ديوننا الداخلية والخارجية لا تزال في تزايد.. فربما انشغلت حكومات 30 يونيو ببناء المشروعات الاقتصادية العملاقة؛ مما شغلها عن الاستثمار في الموارد البشرية؛ فخرجت مصر من التنافسية في مجال التعليم الأساسي.. ولم نحصل على ترتيب متقدم ضمن أفضل 500 جامعة في العالم.. وصرنا الدولة الأولى عالميًا من حيث الإصابة بالفيروسات الكبدية التي بلغت نسبة الإصابة بها 17% سنويًا.

لا أنكر أن حكوماتنا لا تعرف معنى الاستثمار في البشر، والدليل أن ما تُنفقهُ الدولة على العلاج أضعاف ما ينفق على الوقاية.. فلا يزال الأطفال في مدارس بلا تعليم، والشباب ضحية لسياسات ثقافية وتعليمية متخبطة وفاشلة؛ جعلته يفقد الأمل في غدٍ أفضل، وألقت به في أتون المخدرات والبطالة والجريمة والهجرة غير الشرعية.

واعترف بفشل الحكومة المرصود في امتلاك رؤية واضحة للاستثمار في البشر، وحسن توجيههم واستخدامهم في مجالات التنمية، بالإضافة إلى فشلها في توظيف الجمعيات الأهلية التي تجاوز عددها 54 ألف جمعية أهلية؛ لخدمة قضايا التنمية والحد من الفقر، بل نجحت الحكومة في جعل "التطوع" وصمة في جبين من يرتاده! وبدل من أن تنجح في الاستفادة منه كشريك حقيقي فعال في التنمية والبناء؛ نجحت في تحويله إلى عدو بحكم القانون!

لا أنكر أيضا أن حكومتنا فقدت حسها الاجتماعي، فكيف لحكومة واعية سياسيًا واجتماعيًا أن ترفع أسعار السلع أكثر من مرة في السنة الواحدة، في بلد بها أكثر من 351 منطقة عشوائية، 80 % من أطفالها محرمين تمامًا من الخدمات الأساسية ولا سيما الصرف الصحي ومياه الشرب النقية؟!


كيف تفكر في رفع الدعم عن شعب تجاوزت فيه معدلات الفقر المدقع 4.4 %، وتجاوزت فيه نسبة غير القادرين على إشباع احتياجاتهم الأساسية 27.8%..؟! كيف تفكر حكومة واعية في رفع الدعم، في بلدٍ ارتفعت فيها الأسعار في العام الواحد لأكثر من 300 % مع ثبات شبه كامل في الأجور والدخول!

لقد أثرت في هذا المقال أن يكون مدلالًا بالإحصائيات الثابته والأرقام؛ حتى لا يُغَيِّرُ الموتورون مساره، فيتهمني مهابيل السلطة بالمعارضة الحانقة على الدولة، ويحسبونني على قائمة المناهضين لنظام الحكم.. فأنا أكتب فقط كمواطن مثقف عاشق لبلاده حتى النخاع، أحاور في كتاباتي أصحاب العقول الواعية، والضمائر الوطنية الحية، أطالب فيها أبناء الشعب بالالتزام بواجباتهم كمواطنين يعيشون في دولة ذات سيادة، وأطلب فيها الدولة أن تتعامل مع أبناء الشعب كمواطنين لهم كرامة..

وأؤكد للحكومة والنظام أنه لا مانع من أن يدفع المواطن أكثر، مقابل أن يحصل على خدمة أفضل، وإذا كانت ضرائب الدولة تزداد دون منطق؛ فعلى ما يدفع الشعب ضرائبه؟ وأؤكد ثانية أن مساندة الدولة حق مكفول في عنق كل مواطن، لكنه مشروط أن يعرف كل مواطن إلى أين هو ذاهب، وإلى متى يظل يدفع الضرائب، ولماذا؟!

وفي الختام لى أمنيتين واقتراح واحد، الأمنية الأولى أن يصل هذا المقال إلى الرئيس، ليعلم أن مشكلاتنا الحقيقة ليست في فقر مواردنا، وإنما في فقر أفكارنا وعجز في سياستنا وفساد في مؤسسات الدولة، والتي إن تمسكنا بها؛ لن نخرج أبدا من أتون الأزمة، ولا من دائرة الفقر المفرغة..

والثانية أن يُعِيدَ الرئيس النظر في قرارات الغلاء الأخيرة، والتي أراها لا تَصبُ أبدًا في صالح استقرار البلاد، بل ربما تصبح سُلَمًا يتسلق من خلاله أعداء الدولة إلى عقول البسطاء؛ فينفضوا عن دعم النظام ومساندة الدولة..

وأقترح على الرئيس أن يؤسس خلية لقياس الرأي العام "ليست أمنية" تتبع مباشرة مؤسسة الرئاسة، وتتكون فقط من رجال الاجتماع وعلم النفس، وتستهدف قياس نبض الشعب، قبيل إصدار كل قرار سياسي، إيمانًا من النظام أن مساندة الشعب وتماسكه، هي الضامن الوحيد للاستقرار والانتصار على كل الأزمات، وأذكره أن من العجلة ما أفضى إلى الندم، وأن ما لا يُدرَك كله لا يُترَك كله!
Sopicce2@yahoo.com
الجريدة الرسمية