المطبلاتي أسوأ من المنافق
في فيلم أرض النفاق تغيرت حياة الموظف الغلبان بعدما نفد تناول دواء النفاق وارتفع مقامه وازداد ثراءً، وما لبث أن عاد إليّ سيرته الأولى، بائسا تعيسا بمجرد ضياع تأثير الدواء، وكان الفيلم مقتبسا عن رائعة يوسف السباعي، عندما كانت هناك محاولات جادة من المثقفين المصريين لمواجهة أوجاع وأمراض البلد، وأهمها النفاق الشامل سواء من السلطة للشارع أو من الناس للسلطة بمقولات أصبحت دستورا للترقي، لدرجة أننا إذا لم نجد من ننافقه ننافق أنفسنا، وربما نكون الدولة الوحيدة التي لديها هذا الكم من الأغاني باسم مصر وحضارة مصر ورجال مصر، بينما ألمانيا واليابان مثلا العالم يغني لهما، عندما يستعملان ما ينتجانه من سيارات ومعدات وأجهزة..
ورغم حالة تأليه الحكام عند المصريين في حياتهم منذ الفرعون الأول، ما نلبث أن نلعنهم في أول ثانية لاختفائهم، ونفس الذين غنوا لمبارك اخترناك كانوا يقذفونه وأسرته في ميدان التحرير مساء ١١ فبراير٢٠١١، والصحفي الذي كتب أن يوم مولده كان يوم مولد مصر، هو نفسه الذي خرج لتأييد من خلفه، وفيما يبدو أن الحكاية ليست طارئة، ولكنها منذ أطاح الفرعون بسلفه وكل إنجازاته من على جدار المعابد في طيبة القديمة، ومنذ قال للرعية أنا ربكم الأعلى واستخف بهم فأطاعوه، وربما كان الاستعمار الذي عاش نحو ثلاثة آلاف سنة لمصر.
وللمنافقين سورة كاملة في القرآن الكريم وذكر الله تعالى كلمة المنافقين ومشتقاتها سبعا وثلاثين مرة لنحو ثلاثين موضعا، وتبدأ سورة المنافقون بقوله تعالى: ( إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) ثم يصفهم القرآن (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة)..
وأكثر ما يلفت النظر في حملة رمضان عن المطبلاتي والمقللاتي رغم سذاجتها الاعتراف الرسمي بحق الناس في المعرفة، ليس لأن ذلك أحد الحقوق الأساسية المنصوص عليها في الدستور ومواثيق حقوق الإنسان، بل إن أول خطاب من الله لرسوله كان اقرأ، وحثه على المعرفة، وأظن أن الدولة أنتجت تلك الحملة نتيجة تقارير مؤكدة عن الفجوة بين السلطة والشارع، وهي خطوة جيدة وإن جاءت متأخرة وستكون إنجازا إذا استمر هذا النهج ولم يتوقف بعد أن يؤدي غرضه، وتعود ريمة أقصد السلطة لنهجها في الوصاية على الناس واحتكارها المعلومات، لأنها ترى أن الشعب لا يزال صغيرًا وليس من حقه المعرفة، بمنطق لا تسألوا عن أشياء إن تبدى لكم تسؤكم..
غير أن الخوف ليس من السلطة بقدر الخوف من كهنة المعبد، الذين يبيعون للناس الكذب والتدليس ليفوزوا بالغنائم ويخوضوا معارك زائفة فقط للاحتفاظ بمواقعهم، وهم أول من يقفزون من سفينة النظام، وفعلوها مع أنظمة ناصر والسادات ومبارك والمجلس العسكري ومرسي، وهم من ابتدعوا شخصنة كل شيء، وعلى العكس يقلصون مساحات النيل في أي شخصية وطنية، والمن طوال الوقت على الشعب رغم أن كلمة السر في استقرار وأمان هذه البلاد عند شعبها في الصمت والصبر والتضحيات..
والنَّاس على استعداد للتحمل والصبر بشرط أن نشرح لهم حقائق الأوضاع بيسر وبدون وسطاء لفظتهم الأمة، بعد أن فقدوا مصداقيتهم، وفِي تجربة نلسون مانديلا مثلا نموذجا، فقد تسلم دولة مشرذمة في كل شيء ونجح في لملمتها بالعدل وإصلاح منظومة الرواتب وتطبيقها على الكل دون التمييز بين الفئات.
وفِي ظني أن حملة المطبلاتي والمقللاتي جاءت في الوقت المناسب من السلطة في رسالة لهؤلاء الذين يصرون على عرقلة أي محاولة للإصلاح، وإن كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار فإن المطبلاتية في أسفل السافلين، لأنهم لا يكتفون فقط بالنفاق ولكنهم يقومون بتلحينه وتوزيعه والرقص له وعليه.