معركة مصر القادمة.. مع الضمير
مسئولون كبار ومفكرون وكتاب ومصلحون اجتماعيون يشيرون بين الحين والآخر إلى غياب منظومة القيم، والجماعة المرجعية في الشارع المصري، وأظن وبعض ظنى ليس إثمًا أن معركتنا الحقيقية القادمة يجب أن تكون مع الضمير، والضمير وفق ما أرى هو ذلك الكيان المعنوى المؤلم، أو الذي يسبب لنا ألمًا عندما نخطئ الطريق.. السارق يؤلمه ضميره وبنسبة أقل من المواطن الشريف الذي يسقط في براثن الفساد أو اللصوصية.
والضمير يتكون معنا من الصغر وفق منظومة القيم والأخلاق السائدة لذلك تطفو على السطح ظواهر تخفف من حدة ألم الضمير فاللص وفق المنظومة الجديدة هو «كسيب» والشاب الذي يتكسب أموالًا طائلة من تملك «توك توك» لا يوجعه ضميره لأنه ليس صاحب مهنة والمتسول يرى أنه الأحق بأموال الأغنياء ولا يرى في تسوله عيبًا، لذا فإن ضميره قد غاب تحت أقدام المنظومة الجديدة.
والتساهل في تحكيم القوانين يأتى في صالح تغييب الضمير؛ فالإنسان الذي لا يرى عقابا وقع على مهمل يصبح الإهمال لديه جزءًا من ممارسات يومية للشعب، وقد يتأثر الضمير بالبيئة المحيطة وقد يتغير وفق هذه البيئة، فالشاب المصرى الذي يسافر إلى الغرب يبدأ فور وصوله في تركيب ضمير جديد يتوافق ومنظومة القيم هناك.. لا يسرق ولا يخالف إشارات المرور ويعمل بجد واجتهاد وفق منظومة المجتمع الجديد.
ولعل الألم النفسي الذي تتعرض له فتاة محتشمة عندما يظهر من جسدها جزء تخفيه أكبر بكثير من الألم الذي تتعرض له شابة ترتدى المايوه إذا ما ظهر هذا الجزء اليسير الذي يخفيه المايوه.
الممارسات التي نراها فوضوية لن تختفى إلا إذا خضنا معركة حقيقية من أجل استعادة الأرضية الخصبة لنمو ضمير جديد يقدس المقدس ويحترم المحترم ويتماهى مع الذات الجديدة.. الذين يصرخون لأن عدد العمال الأجانب الوافدين إلى مصر بلغ مليون عامل لا يدركون أن منظومة القيم لا تقدس العمل، وأننا الشعب الوحيد الذي يمكن للإنسان فيه أن يعيش عالة على الآخرين.
الشباب الذين يعملون في مهن متدنية خارج مصر لا يوافقون على العمل بها داخليًا، إنما يفعلون ذلك لأنهم ينضمون إلى مجتمعات تقدس العمل، فإذا لم تعمل فلن تأكل.. ستموت جوعًا.. في مصر مهن كثيرة طفيلية تتكسب أموالًا طائلة لا تكتسبها من أعمال مرهقة والمجتمع يساعد على ترسيخها لأنه فاقد للضمير الحقيقى المنطلق من قيم حقيقية سواء استمدها هذا المجتمع من نماذج دينية أو اجتماعية مشرفة تقدس العمل وتعلى من قدره باعتباره هدفًا وغاية إنسانية.
إذا أردنا العبور الحقيقى لابد وأن نعيد للأخلاق قدرها المفقود، خاصة وأن قيمًا جديدة تطفو على سطح المجتمع تعلى من قدر لاعب الكرة والفنان أكثر مما تعلى من قدر الفلاح والعامل والموظف والمدرس والطبيب والسباك والنجار.. تقسيم المجتمع إلى فئات عليا تنتمى إلى طبقة «الباشمهندس» أو الدكتور وتحتقر وتزدرى العامل والفلاح وتعتبر أبناءه درجة ثالثة لا يقبلون في المدارس الحكومية المتميزة يمثل انتهاكا للضمير السليم.
ابن الفلاح وابن العامل وابن الصنايعى الذي يحرم من دخول السلك القضائى أو الدبلوماسى أو كليات الشرطة، إنما هو ترسيخ لضمير مزيف ما زالت تنتهجه الدولة ضد الضمير الحقيقى المبنى على قيم المساواة والعدل والإنصاف.. إذا أردنا أن نعيد ماكينة الضمير المصرى لا بد وأن تبدأ الدولة في انتهاج سلوك يتماشى مع ما نحاول أن يؤمن به المواطن.