نكون أو لا نكون
سأترك الآن واقعنا، وسأذهب معكم إلى دنيا أخرى، في عالم آخر، وزمن آخر، وسأنظر من العالم الآخر إلى بحيرة مقدسة، مياها لم تنضب أبدا رغم مرور آلاف السنين، أين تلك البحيرة؟ هي بلا شك في مصر، ولكن أين في مصر؟ ستجدها في الأقصر، تلك البحيرة التي أنشأها الملك المُعَظم تحتمس الثالث، أعظم ملوك مصر، بل والعالم كله عبر التاريخ، ولكننا لا نعرف شيئا عن التاريخ، وحين أبدع حفرها تحتمس الثالث الذي كان عالما في الهندسة والفلك والكيمياء، جعل طولها 80 مترًا، وعرضها 400 متر، وكان يحيط بها سور، ووضع على جانبيها الشمالي والجنوبي مقياسا للنيل، له مدخلان أحدهما من الجهة الشرقية، والثاني من الناحية الغربية، لهما سلالم حجرية.
في تلك البحيرة كان يغتسل الكهنة قبل أداء أي مراسم دينية أو احتفالات قومية، والإعجاز في هذه البحيرة هو أن المياه فيها ثابتة لا تزيد أو تنقص حتى مع تغير ارتفاع أو نقصان منسوب النيل، وظل ذلك كذلك منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام ولم تجف البحيرة أبدا، وهذا واحد من أهم براهين إثبات عبقرية المهندس المصري القديم العظيم.
أي عبقرية وأي إعجاز.. مياه منسوبها ثابت لا تقل رغم عوامل النتح والفقد والتسرب والبخر ولكن لا عجب فهو المهندس المصري الذي شيَّد وبنى وعمَّر وحيَّر كل مهندسي الدنيا، وعلى جدران معبد الكرنك «جُملة فرعونية» هي الصلوات التي كان يؤديها الكهنة في حضرة تحتمس الثالث قبل أن يذهب في حروبه هي: «آمون يسمعُني ويحضُر، عندما أناديه، يمدُّ يدهُ إليَّ، فأصبحُ سعيدًا، يناديني: إلى الأمامِ، إلى الأمامِ، أنا معَكَ، أنا والدُكَ».
تحتمس الثالث ذلك الملك الشجاع ينادي آمون رفيقه، يريد منه أن يصحبه في كل الحروب التي يخوضها؛ ليستجمع به صلابة عقله ورجاحة فكره. أربعة وخمسون عامًا مضت على ذلك الشاب قوي البنية الذي أمضى عمره كله بين الحروب والقتال، ذلك القائد العسكري الذي حزن عليه المصريون حين مات حزنًا لم يعرفوه قط قبل ذلك، الملك الشاب أراد أن يقدم لآمون رفيق حروبه غنيمة الانتصارات التي أهداها له، فشيد له بنيانًا عظيمًا «أبت سوت» أو «معابد الكرنك»، التي تم بناؤها بعبقرية مذهلة دلت على نبوغ المصريين القدماء في فنون البناء والعمارة، وظل معبد الكرنك صامدا عبر ثلاثة آلاف سنة.
ولكن ماذا سيحدث للملك الشجاع «تحتمس الثالث»، حينما يدرك أن أحفاده في العصر الحالي نسوا عبقرية المكان وسحر عمارته المتقنة، وسعوا إلى التشبث بأفكار مجردة من الواقع والمنطق، وبعد أن كانوا في زمنه أقوى دولة في العالم، وبمقياس التاريخ كانوا أقوى دولة على مر التاريخ، إلا أنهم الآن خارج التاريخ، هم عالة على الأمم، بأيدينا كنا وبأيدينا هُنَّا، وبأيدينا نكون، فهل نكون؟