رئيس التحرير
عصام كامل

الزول السوداني


مثل نهر النيل الهادر أحيانًا فيضًا والبطيء كثيرا صبرا وصمتا سارت العلاقات المصرية السودانية حبا وودا وعطاء وقهرا وغضبا، ولكن الأمر المؤكد أن مصر تحب السودان بالفطرة، وهي التي وافقت طوعا على استقلاله في الخمسينيات، وهي التي لا تصدق تحالف الخرطوم مع الإخوان، ومع من يضمر الكره للقاهرة، ولكننا بالخبرة نعلم أن السودان كلما اقترب من بعض الأنظمة الخليجية ارتفعت نبراته الحادة تجاه شقيقته الكبرى، وكثيرا ما يكون الهجوم مناورة للنظام مع معارضيه برفع لافتات حلايب وشلاتين أو التهديد بتدويل القضية، وعلى مدى عمري صادقت وصاحبت وزاملت وعرفت سودانيين، ورغم الود الحقيقي عند التعامل اليومي المباشر فإنه بعد قليل ستكتشف أن نسبة كبيرة منهم تحمل قدرا كبيرا من الوجع والمرارة تجاه مصر، سواء مما يعتقدونه أنها سياسات مقصودة من السلطة عبر الزمان، أو من سلوك بعض المصريين وتعمد بعض الأفلام تصوير السوداني في مرتبة أقل من شقيقه المصري، والتعامل بفوقية..


ولأن "الزول" السوداني و"الزول" تعني الكريم، ويكاد يكون النسخة الجنوبية للمصري القاهري فلا فارق يذكر بين الزول وأبناء النوبة أو أسوان، ومن الصعب إذا اجتمعوا معرفة من فيهم المصري ومن السوداني، وربما كانت العلاقة الشعبية قد تم اختزالها في العلاقة بين السلطتين في البلدين صعودا وهبوطا، بل يتم استغلالها للأسف في التعبئة الإعلامية والسياسية دوما ضد المصريين، من قبل أنظمة الحكم المختلفة في السودان، ويعاونها بعض المؤسسات الحزبية، برفع سيوف كراهية مصر وتحميلها زورا أمام الجماهير المضللة أن مصر سبب تراجع وتخلف السودان..

ولا ينفي ذلك مسئولية النخب في كلا البلدين عن استمرار مشكلات الإدراك من كل طرف تجاه الطرف الآخر، ويصاب المرء بالحسرة عندما يستمع لشخصيات سودانية على قدر كبير من الثقافة والتعليم تردد نفس مقولات البسطاء من المرارة تجاه مصر والمصريين، بما يشبه (فوبيا القهر) نتيجة إرث تاريخي رسخه كهنة الاستقلال والحرية في السودان منذ الاستقلال، وعلى الطرف الآخر تجاهل النخبة المصرية التعدد الإثني والثقافي السوداني، وانزلقوا لتدعيم المكون العربي في الهوية السودانية فقط على حساب بقية المكونات الأخرى، ولم تكتشف النخبة المصرية ذلك الا متأخرا بعد انفصال الجنوب عن الشمال، وربما وقع الأمر ذاته للنخبة السودانية التي لم تكتشف طبيعة الدولة المركزية عند المصريين الا متأخرا..

ورغم اتفاقات التكامل العديدة بين الدولتين ظلت تلك الاتفاقات مرتبطة بالانظمة أكثر منها بالشعبين فلم تستمر وخسر الشعبان فرصا عديدة للتكامل الحقيقي، الأمر الذي يعكس حاجة الساسة والمثقفين إلى تطبيع العلاقات العربية- العربية، وتجنيب الشعارات عند المناقشة، وكفانا خداعا للذات منذ مقولات أمة عربية خالدة، ذات رسالة واحدة، ووطن واحد من المحيط الهادر للخليج الثائر، فلا الخليج ثار ولا الأمة كانت ذات يوم صاحبة رسالة، ويكفي ماحدث للأمة منذ أن رفعت تلك الشعارات..

ويزداد العجب عندما تتجه الأمة للتطبيع مع من اغتصب الأرض والعرض وقتل ودمر، وتأنف أن تطبع مع الأشقاء، والمصيبة في الجيل الجديد الذي يتعامل مع العروبة بمشاعر ليست ودية، وفِي السودان تجد هذا الجيل ناقما على كل ماهو مصري، ولديهم أسباب يحفظونها مثل سلبيات السد العالي على اقتصاد السودان، ويكررون الهرطقة الإسرائيلية بأن الحضارة الفرعونية أصلها سودانية، ثم نفاجأ باتهامات ليس لها أساس، مثلما زعمت السلطة هناك بموافقة مصر على تمديد العقوبات المفروضة عليها من مجلس الأمن، أو الاتهامات بإمداد متمردي دارفور بالأسلحة، على الرغم من علم مصر بأن قطر تستخدم الأراضي والمطارات السودانية لدعم الاٍرهاب ضدها، وتزويد الإرهابيين بالأسلحة، ومن المعلوم الآن بالضرورة أن تلك المزاعم والاتهامات تتزامن مع رضا حاكم قطر أو والدته على الخرطوم، وباتت اللعبة محفوظة وقديمة، ولم تعد تثير الانتباه، لأن مصر الكبيرة لا تأبه للتصرفات الصغيرة خاصة إذا صدرت ممن لهم مكانة في الضمير والقلب المصري.
الجريدة الرسمية