دولة بلا كتالوج
قرأت مؤخرا تصريحات كريسين لاجارد، المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي، بأنه على مصر أن تتخذ خطوات جادة وقوية تجاه التضخم الحاصل في البلاد، مشيرة إلى ضرورة رفع الفائدة على الأوعية الادخارية التي تعتبر أهم أدوات مواجهة التضخم التي يستخدمها البنك المركزي.. ووفقًا للأرقام الرسمية المعلنة فإن معدل التضخم ارتفع خلال أبريل الماضي بنحو 1.8% مقارنة بمارس السابق ليبلغ 242.7 نقطة وعلى أساس سنوي ارتفع خلال الشهر الماضي إلى 32.9%.
وبغض النظر عن تدخل صندوق النقد الدولي في السياسة الاقتصادية بمصر، وتوجيهها كيفما شاء، فهذا أمر رغم إنكار البنك المركزي والمسئولين له، فإنه حادث ومنطقي، فقد لجأنا للصندوق بشروط الصندوق وليس بشروطنا، والدائن يفرض على المدين ما يشاء من تكاليف يرى أنها تضمن إعادة دينه له، وهذا أمر بديهي ولا أجد عيبا في إملاء الصندوق على مصر شروطه، فالذي يلام ليس الصندوق ولكن من اتجه إليه !
المهم ترى مديرة الصندوق أنه يجب على البنك المركزي رفع معدل الفائدة حتى تواجه مصر ارتفاع الأسعار أو تضخم ارتفاع الأسعار، وقد سبق أن رفع البنك المركزي الفوائد على بعض شهادات الادخار إلى رقم غير مسبوق وهو 20% منذ نوفمبر 2016 بعد تحرير سعر الصرف مباشرة، ورغم رفع الفائدة لذلك الرقم غير المسبوق وسط أمل في سحب السيولة من السوق وبالتالي انخفاض الأسعار فإن ما حدث هو العكس تماما فقد حدثت موجة غلاء في الأسعار غير مسبوقة تجاوزت 200% لكثير من السلع الأساسية.. وهذا أمر ضد المنطق الاقتصادي، فرفع سعر الفائدة يعني أن ذلك سيجذب الأموال من خارج القطاع المصرفي إلى البنوك، وبالتالي المعروض من النقد سينخفض، وبالتالي الإقبال على السلع سينخفض تدريجيًا ومن ثم يهبط معدل التضخم، وتنخفض الأسعار لكن ما حدث في مصر أمر لا يفسر بالفعل ويؤكد أن تركيبة الشعب المصري تركيبة غريبة ومعقدة..
فعلى الرغم من أن حجم الأموال التي ضخها المصريون في شهادات الاستثمار ذات العائد 20% و16% وصل إلى 320 مليار جنيه، منذ العمل بها بما يعني أن السيولة سحب معظمها من السوق، وبالتالي لن يكون هناك إقبال على السلع –وهو ما تؤكده البرامج واللقاءات الاقتصادية بين الجمهور والتجار– مما سيؤدي إلى انخفاض أسعارها لكن ما حدث هو ارتفاع كبير في الأسعار بما يعني وجود طلب كبير على السلع، بما يعني وجود سيولة ضخمة لدى الناس، أي أن مع المصرييــن أموالا ويدعون عكس ذلك، ويشتكون من الغلاء وهم يتكالبون على الشراء بدرجة جعلت الأسعار ترتفع بشدة!
هل نصدق منطق الاقتصاد العالمي الذي يتحدث به خبراء العالم، والذي تؤمن به السيدة مديرة صندوق النقد الدولي، وهو أن رفع الفائدة يؤدي إلى جذب الأموال إلى القطاع المصرفي، وبالتالي قلة السيولة مما يؤدي إلى خفض الطلب على السلع وبالتالي خفض الأسعار، وهو ما تريده مديرة الصندوق من مصر حاليا ؟ أم نصدق منطق الشعب المصري الغريب، فقد حدث بالفعل أن تم رفع سعر الفائدة، واتجهت الأموال بكثافة للبنوك، وكان من المنتظر أن تقل الأسعار لانخفاض الطلب، لكن ما حدث أن الأسعار ارتفعت؟
يا سيدتي مديرة صندوق النقد الدولي لا تتعبي نفسك، وتقدمي لمصر حلولا اقتصادية ذكرت في أعظم النظريات الاقتصادية المعمول بها في العالم، فشعب مصر لا يسير على الكتالوج هو شعب بلا كتالوج.
ونوجه هنا الحديث إلى البنك المركزي ومسئولي الاقتصاد في مصر، يا جماعة لن ينخفض التضخم برفع سعر الفائدة، وقد جربتم ذلك واتضح أن هذا الأمر لا جدوى منه في مصر، لكن إن خلصت النوايا وأردتم بالفعل خفض الأسعار والسيطرة على التضخم الذي جعل الكثير من المصانع تعاني من ركود السلع –وهذا أمر ضد المنطق، فكيف يكون هناك ركود في السلع ورغم ذلك أسعارها مرتفعة ؟- فيجب تنفيذ ما سبق واقترحناه مرات كثيرة، ومن ذلك يجب زيادة الضرائب على السلع الكمالية التي تداولها القلة من السكان من أصحاب الدخول المرتفعة، وخفض الإنفاق الحكومي –وهو أمر لن يحدث مهما نادينا ولكننا نعمل ما علينا- الذي يعد أحد الأسباب المؤدية إلى زيادة المتداول من النقد في السوق..
وبالتالي فإن الحد من هذا الإنفاق وتقليصه سيؤدي إلى خفض النقد المتداول في الأسواق، إن رفع سعر الفائدة ليس حلا، فحجم الدين الداخلي يبلغ تريليونًا و200 مليون جنيه، ورفع سعر الفائدة سيرفع من نسبة الفائدة على تلك الديون.. وسيؤدي رفع سعر الفائدة إلى تراجع الاستثمارات الأجنبية والمحلية لارتفاع تكلفة الاستثمار، وسحب السيولة من الأسواق والبورصة المصرية والاستثمارات الأخرى وتجميعها وركودها في القطاع المصرفي دون استثمارها، والتأثير السلبي فى أداء البورصة المصرية، وإحجام البنوك عن تمويل المشروعات الاستثمارية وتوجها لإقراض الحكومة في أدوات الدين ذات الفائدة المرتفعة لتتفاقم معدلات الدين المحلي وتكلفة الدين لمستويات كارثية وغير مسبوقة.. فالاقتصاد المصري في وضع صعب، ورفع أسعار الفائدة مرة أخرى سيؤدي إلى زيادة مشكلات الاقتصاد بالاتجاه نحو سياسة انكماشية واضحة.