الغلابة يا ريس !!
الغلابة في أي مجتمع هم الميزان الذي يمكن أن نحكم به على كفاءة النظام السياسي الحاكم، فما يوفره نظام الحكم من فرص متجددة لهم عبر سياساته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية هي المعيار الحقيقي لنجاحه أو فشله، فلابد لأى نظام حكم أن يكون منحازا بالدرجة الأولى لهؤلاء الذين يحتاجون لمن يمد لهم يد العون لمواصلة رحلة البقاء على قيد الحياة ليس أكثر وهم الشرائح والفئات والطبقات الاجتماعية التي لا تستطيع توفير حد أدنى من الحياة الكريمة بمفردها.
فالغلابة داخل أي مجتمع هم الهم الأكبر للحكام وصانعي القرار فإذا نجح الحاكم في مساعدة هؤلاء لتحسين مستوى معيشتهم ونقلهم من حد الكفاف وما دونه إلى حد الكفاية والستر يكون الحاكم قد نجح في مهمته الأساسية، وإن لم يتمكن من تحسين أوضاع الغلابة وازدادت معاناتهم وعودهم في ظل حكمه يكون بذلك قد فشل في المهمة الأساسية التي جاء من أجلها إلى كرسي الحكم.
لذلك لا عجب عندما نراجع تاريخنا الحديث والمعاصر فتبرز في المشهد صورة الزعيم جمال عبد الناصر الذي قام بثورة 23 يوليو 1952 وكان المجتمع المصري قبلها يشهد حالة من الاستقطاب الاجتماعى الحاد، فالغالبية العظمى من المصريين كانوا يقعون في خانة الغلابة الذين يصفهم علم الاقتصاد الآن بمن يعيشون تحت خط الفقر، ويصفهم علم الاجتماع بمن يقعون ضمن الشرائح والفئات والطبقات الاجتماعية الدنيا، وكانت المهمة الأساسية لنظام الحكم الذي قاده جمال عبد الناصر كيف يخرج هؤلاء الغلابة من المعاناة اليومية لتوفير احتياجاتهم الضرورية من أجل الحياة.
فكانت جملة السياسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية المنحازة لهؤلاء والتي تمكنت من تحقيق حد أدنى من الحياة الكريمة لهم، فتغيرت الخريطة الطبقية للمجتمع المصرى بشكل كبير في أقل من عقدين من الزمان، حيث ظهرت الشرائح والفئات والطبقات الاجتماعية الوسطى من المستورين على الساحة المجتمعية المصرية وتراجعت نسبة الغلابة بشكل ملحوظ، بفعل انحياز الحاكم للغلابة قولا وفعلا عبر سياساته التي قلمت أظافر الإقطاع والرأسمالية التي نهبت لسنوات طويلة قوت الشعب وحولت غالبيته لفقراء وكادحين.
وجاء الرئيس السادات لينقلب على هذه السياسات المنحازة للغلابة، وأعطى اهتمامه للشرائح والفئات والطبقات العليا داخل المجتمع، وخلال فترة حكمه اختلت الخريطة الطبقية للمجتمع المصرى من جديد وبدأت مكتسبات المستورين تتآكل ويهبطون مرة أخرى لخانة الغلابة الذين لا يستطيعون توفير احتياجاتهم الضرورية للحياة، فكانت هبات الغلابة في وجهه في يناير 1977 وهى ما عرفت بانتفاضة الخبز، ورفض هو تسميتها بمسماها الحقيقي وأطلق عليها مصطلح انتفاضة الحرامية، ولعله من العجيب حقًا أن يصف حاكم غالبية شعبه بالحرامية حين يخرجون عليه مطالبين بحقهم في الحياة.
ورحل السادات وحل محله مبارك تلميذه الوفى، وخلال ثلاثة عقود كاملة كانت سياساته منحازة للأغنياء على حساب الفقراء، ما نتج عنه سقوط الغالبية العظمى من فئة المستورين التي تعرف بالطبقة الوسطى إلى فئة الغلابة التي تعرف بالطبقة الدنيا، وهو ما أدى في نهاية حكمه أن خرج هؤلاء الغلابة يطالبونه بالرحيل، ويرفعون شعار العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
ومنذ 25 يناير 2011 وحتى الآن يحلم الغلابة في بر مصر بتحسين أحوال معيشتهم التي لم يعد هناك إمكانية لاحتمالها، ومرت البلاد منذ رحيل مبارك بعدة بدائل للحكم كان أولها حكم المجلس العسكري، ثم حكم جماعة الإخوان، ثم حكم عدلي منصور، وعبر هذه البدائل تدهورت أحوال الغلابة في بر مصر أكثر فأكثر، وتعرضت أحوال المستورين إلى هزات كبيرة ألحقت عدد كبير منهم بالغلابة غير القادرين على مواجهة أعباء الحياة اليومية.
وخرج الغلابة يرفعون صور قائدهم التاريخى جمال عبد الناصر، وكان قد برز في المشهد قائد الجيش عبدالفتاح السيسي فرفعوا صورته بجوار صورة جمال عبد الناصر في مشهد دراماتيكى ورمزى يعنى أنك البديل الحلم، وقد كان الرجل عند مستوى المسئولية ومنذ اللحظة الأولى أعلن للغلابة أنه معهم ولن يتخلى عنهم وسيحقق لهم أحلامهم في العيش بكرامة داخل مجتمعهم، ومنذ توليه السلطة وحتى اليوم وقد أوشكت ولايته الأولى أن تنتهى وهو يعد الغلابة لكن الواقع يقول عكس ما يعد به.
فخلال السنوات الثلاثة الأخيرة شهدت أحوال المصريين المعيشية ما لم تشهده في طول وعرض حكم (السادات– مبارك– المجلس العسكري – الإخوان – عدلي منصور) من تدهور شعرت به كل شرائح وفئات وطبقات المجتمع دون استثناء، فإذا كان في الماضى فئة المستورين من الطبقة الوسطى هي من تشعر بالمعاناة وتهبط لتنضم لفئة الغلابة، فالآن بعض أبناء الطبقة العليا من الميسورين أصبحوا يشعرون بالقلق إزاء ارتفاع الأسعار بشكل جنونى بما يفوق قدراتهم، أما فئة الغلابة التي انضم إليها مؤخرًا أعداد هائلة فقد أصبحت على وشك الانفجار، خاصة أن شهر رمضان على الأبواب والأسعار تشتعل بما يفوق قدرات الغلابة على تحملها، وهو ما يجعلنا نطالب بمائدة رحمن بطول وعرض الوطن لاستيعاب الغلابة خلال أيام الشهر الفضيل.
لذلك يجب على الرئيس عبد الفتاح السيسي أن يتحرك فورًا وقبل فوات الأوان، فالغلابة هم ميزان الحكم على نجاحه أو فشله، فبعيدًا عن بعض نجاحاته على المستويين "الإقليمي والدولي"، وبعيدًا عن بعض نجاحاته في مكافحة الإرهاب، وبعيدًا عن بناء بعض المشروعات القومية التي يمكن أن تأتى بنتائج على المدى البعيد، لكن تظل تحسين أحوال معيشة الغلابة هي المعيار الحقيقي لنجاح أو فشل أنظمة الحكم، ولن يتحقق ذلك إلا بمواجهة مباشرة تأجلت كثيرًا مع رموز الفساد الذين سرقوا ونهبوا ثروات الوطن، ومازالوا يتاجرون بقوت الغلابة ولا يجدون من يتصدى لهم، لذلك نقول «الغلابة يا ريس» هم كلمة السر من وقف معهم نجا وخلده التاريخ، ومن وقف أمامهم خسر كل شيء..اللهم بلغت اللهم فاشهد.