بالصور.. رحلة «سيد حجاب» بين الشعر والحب.. زوجته: كان مانحا للسعادة وزواجنا «ميلاده الثاني».. اكتشفنا إصابته بسرطان الرئة بفرنسا.. واظب على الكيماوي 8 أشهر.. «خطى السبعين»
«اخترتي المكان اللي كان بيحب يقعد فيه».. لم أكن أعلم عند اختياري لذلك الركن من غرفة المكتب للجلوس، أنه المكان المفضل للشاعر الراحل سيد حجاب، ابتسمت وجلست، كان تنويه زوجته بتاريخ المكان الذي أجلس فيه، كفيل بأن يمنحني بعض الطمأنينة للبدء.
لم يكن ثمة هاجس يغازل خيالي، طوال رحلتي لمنزل الراحل سيد حجاب، لمقابلة زوجته ميرفت الجسري، سوى "ما الذي تشعر به الآن؟".. كنت أعلم أنها تعكف على ترتيب غرفة مكتبه لاستقبالنا، وأنها المرة الأولى التي تحاول فيها ترتيب المكتب منذ وفاته في 25 يناير الماضي، الأمر كان مرعبا بالنسبة لي!، لما سيثيره ذلك الترتيب من مشاعر وذكريات في نفس الزوجة العاشقة.
كان هاجسي في محله.. بدت ميرفت منذ النظرة الأولى كطفلة تحاول الهروب من نظرات قد تفضح الشوق داخلها، قد تفتح الجرح الذي لم ولن يندمل أبدًا.. حاولت بدء الحوار، بذكريات قديمة، تبدأ من شرارة الحب الأولى.
تحكي ميرفت ذكرى اللقاء الأول، فتقول: "كنت أحضر الدكتوراه بالكيمياء العضوية في الخارج، وفي الوقت نفسه كنت أعزف على آلة القانون وأغني.. فجلست أعيد حساباتي حول رغبتي في الغناء، وتأكدت آنذاك أني أهوى الغناء، وودت أن أغني من كلمات سيد حجاب، فعدت فورًا إلى مصر، وقابلته عن طريق صديق مشترك".
لم يكن لقاء ميرفت وحجاب، محض لقاء عابر، وإنما كان بمثابة ولادة لروح كليهما، وكأن كل منهما كان ينتظر لقاء الآخر، دون أن يدري هو نفسه برغبته في ذلك اللقاء.
لم يكن لقاء ميرفت وحجاب، محض لقاء عابر، وإنما كان بمثابة ولادة لروح كليهما، وكأن كل منهما كان ينتظر لقاء الآخر، دون أن يدري هو نفسه برغبته في ذلك اللقاء.
بعين لامعة وملامح تعيش اللحظات التي تقصها من جديد، تكمل ميرفت قصة ما قبل زواجها، فتقول: "بالفعل، كان كل منا ينتظر لقاء الآخر دون سابق معرفة، وبدأت علاقتنا كصداقة، حيث نرى بعضنا بشكل يومي، ثم نذهب لأمسية شعرية، أو ندوة أو السينما، في تلك الأوقات تعرف حجاب على عائلتي وانخرط فيهم، فأحبهم وأحبوه، ومن ثم تحولت الصداقة إلى حب فعشق، ثم تزوجنا".
مانح السعادة
خلال رؤيتك لميرفت والاستماع إليها حين تحكي عن "حجاب"، ستتخيل لوهلة، أنك ترى سيد حجاب نفسه، بابتسامته الصادقة الحنون، عيناه البريئتان ذات البريق، حيث يعكسان في لمعانهما صدق مفرط.. وستجدها نفسها تؤكد على خيالك عندما تقول: "أحببنا بعضنا حد العشق، لأننا نشبه بعضنا في تفاصيل كثيرة، فهو إنسان بسيط للغاية، عاشق للمرأة والوطن، وكان يفعل ما يقوله بصدق.. نعم؛ كان مانح للسعادة والفرح، فالحياة معه كانت أجمل ما يكون.. حتى لحظات الصمت كنت أستمتع بها، فهو من أنضجني، فصار نصفي الثاني".
غيرة النساء
لم تكن ميرفت مثل غيرها من النساء اللواتي يشعرن بالغيرة، ما إن يقاسمهن في أزواجهن شريك آخر، وكان شريكها في حجاب هو "الشعر"، فكانت تحترم قدسية الشعر لديه، وأنه فنان عاشق لا يمكن أسره في قالب زوجي معين، وإنما كما الطير لابد وأن يحلق في حرم القصيدة.
تحكي ميرفت علاقة حجاب بالشعر، فتقول: "لم يكن الشعر مرتبط لديه بطقس معين أو مكان وزمان، وإنما يأتيه في أي وقت، فكان من الممكن أن يستيقظ فجأة من النوم ليكتب خاطرة ما مرت في رأسه، وعندما ينتهي يعود للنوم مرة أخرى.. أما في معظم الأحيان كانت فكرة القصيدة تأتيه أولا، فيصبر عليها حتى تختمر في رأسه ثم يكتبها، وكان دائما مايقول أن الفكرة التي لا تنتظر في رأسه، لاتستحق التحول لقصيدة ستبقى وتُخلد".
مرض حجاب
لم يكن الحديث عن مرض "حجاب" في تلك الجلسة بالأمر السهل، حيث أرى عيناها تحاول كبح الدموع بالفعل، فكيف إذا ما سألتها!.. حاولت اجترار السؤال بشكل هادئ لا يهيج المشاعر، ولكن هيهات!.. ثمة دمعة لم تكن لتقاوم أكثر، سقطت فمنعتها من التمادي أكثر، وأخذت بمسحها عن وجنتيها على الفور، لتتماسك قدر المستطاع.. توتر بسيط ساد الجو، ثم أجابت:
"بدأت أنا والمقربين منه نلاحظ علامات الإجهاد والوهن عليه في مايو 2016، كان يقاوم ذلك الألم الذي يجتاح جسده بافتعال النشاط والحركة والتنقل ما بين الندوات والفعاليات الثقافية، ولكن توغل المرض، ووجب معرفة ماهيته.. سافرنا إلى فرنسا لإجراء عدة فحوصات، وهناك اكتشفنا إصابته بسرطان في الرئة، ومن ثم عدنا إلى مصر لمتابعة العلاج مع طبيب فرنسي".
رحلة الـ8 أشهر
تضيف: "استمرت فترة المرض لمدة 8 أشهر متتالية، كنا نذهب فيها إسبوعيًا إلى المستشفى لتلقي العلاج الكيماوي -وهو كان العلاج الوحيد الذي يتناوله آنذاك-، ولكن كان يشعر طوال فترة مرضه بالأمل، يحاول جاهدًا بث الأمل داخلي وفي أصدقائه المقربين، حيث كان كارهًا للمرض، عاشقًا للحياة ومقبلا عليها، ولا يحب المتاجرة بمرضه، لذلك لم يكن يحبذ فكرة زيارته بالمستشفى، حتى لا يراه أي شخص في مرضه".
حتى على سرير المرض، كان الشعر هو الوحيد القادر على إفاقته من عالم الوهن، حيث تؤكد ميرفت أنه في الأيام الأخيرة لحياته، كان ينام ويستيقظ في المستشفى، فتشعر أنه فاقد لتركيزه التي اعتادت أن تراه به، فتحاول أن تشحذ نشاطه بالحث على الشعر.
تقول: "كان في الأيام الأخيرة بالمستشفى، بحسه مش مركز، فأحاول أخليه يتنشط، فقوله (يلا بأه قوم عشان تكمل قصيدة خطي السبعين)، وفعلا أول مايسمع سيرة الشعر، يصحصح ويفوق ويبدأ يتكلم ويضحك من تاني"، وكانت "تاتا خطي السبعين" هي القصيدة التي توفي حجاب خلال كتابتها.
تؤكد ميرفت: "كان يعتبرها قصيدة حياته، لأنها تضم عدة أبواب تتحدث في أمور حياتية وجمالية عدة، وقد أنهى منها قبل وفاته باب واحد، ولم يستطع إنهاء البقية، وسماها بهذا الاسم لأنه بدأ كتابتها عند أبواب السبعين من عمره".
يقول مدخل القصيدة:
فيه حد بعباية سودا معدى في خيالى !!
ده الموت ده؟! ولا سحابة بتبكى على حالي؟!
ما قادرش اشوف شيء..
غشاوة.. غيوم
هموم بالكوم !
وزقزقة قمرى
وصريخ بوم.. وغربان شوم !!
ح اعمل كأنى لا شفت.. ولا على بالى
ياللى انت بعباية سودا.. معدي في خيالي.