اقرأ
نسمع كلاما كثيرا منذ عقود عن أهمية التعليم وأن التعليم والصحة هما حجرا الزاوية لبناء أي مجتمع لكن ما رأيناه في الخمسين عاما الماضية لم يكن له علاقة بتلك العبارة. كان الكلام دائما عن تغيير نظام التعليم يختصر في تغيير نظام الثانوية العامة فتارة هي سنة واحدة وتارة سنتان وتارة بها ثلاث شعب أدبى وعلوم ورياضيات وتارة شعبتان.
وفى مرحلة ما نالت التجارب من المرحلة الابتدائية فتم تقليصها إلى 5 سنوات ثم سرعان ما عادت السنة السادسة.
ولا ننسى المناهج.. نعم كلام كثير عن مناهج التعليم يغطى رغبات سياسية في وضع أفكار بعينها لإيهام الأجيال بصحتها خاصة في ما يتصل بالتاريخ الحديث وبدأت أولى هذه المحاولات غير الشريفة بعد 1952 بتشويه تاريخ الأسرة العلوية بمحو كل ما لها وتضخيم كل ما عليها وقد يكون هذا مفهوما بعد تغيير نظام الحكم والخوف على الجمهورية الوليدة من أتباع التوريث والملكية إلا أن من يسلك طريق تزوير التاريخ لا يكتفى فسرعان ما تم محو تاريخ أول رئيس للجمهورية اللواء محمد نجيب بعد انقلاب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عليه في نوفمبر 1954 واعتقاله وتحديد إقامته في معتقله الشهير بضاحية المرج.
ثم بدأ التاريخ يتغير رويدا رويدا في ما يخص الأعداء الخارجيين خاصة إنجلترا وفرنسا ثم الداخليين خاصة جماعة الإخوان المسلمين. ولم يكن كل هذا ممكنا دون سيطرة السلطة السياسية على التعليم بشكل كامل وأتذكر هنا مقالا للدكتور كمال مغيث كتبه بعد ثورة يناير في جريدة المصري اليوم يقارن فيه بين القائمين على التعليم قبل 1952 وبعدها وأثر ذلك على مستوى التعليم بحثت عن المقال حتى أنقل منه نصا فقال: "فقد تولى وزارة المعارف أواخر القرن التاسع عشر، على مبارك باشا، وهو أحد طلاب البعثات، ومهندس القناطر الخيرية، ورائد تعليم الفتيات، وصاحب العمل الموسوعى «الخطط التوفيقية»، وتولى الوزارة سعد زغلول في العقد الأول من القرن العشرين، وهو بالتأكيد ملهم وراعى ثورة ١٩١٩ والأب الأبرز لليبرالية المصرية ومؤسس حزب الوفد..
كما تولاها أحمد لطفى السيد، أول من ترجم أرسطو، وأول من دعا إلى القومية المصرية والانعتاق من الهيمنة التركية وظلمات خلافتها، وكذلك تولاها محمد حسين هيكل، مؤسس حزب الأحرار الدستوريين وصحيفته «السياسة»، وصاحب الرواية الأولى في مصر «رواية زينب»، التي تناولت أمراض وأوضاع الريف المصرى، وصاحب الدراسات العميقة للتراث الإسلامى، مثل «حياة محمد»، صلى الله عليه وسلم، و«في منزل الوحى»، التي سعى فيها إلى التوفيق بين العقل والنقل، وهناك عبدالرزاق السنهورى، صاحب أكمل مدونة للقانون المدنى المصرى، وأخيرا هناك طه حسين العظيم، صاحب «الشعر الجاهلى»، و«مستقبل الثقافة»، و«المعذبون في الأرض»، و«الفتنة الكبرى» وغيرها.
أما إذا انتقلنا إلى وزراء ما بعد يوليو، فسنجد الصاغ كمال الدين حسين، أحد الضباط الأحرار وحسب، سعى إلى عسكرة المدرسة المصرية، ووضع نظام الفتوة والشرطة العسكرية، وتحويل مناهج التعليم وفلسفته من الثقافة والمدنية إلى الحشد الأيديولوجى خلف النظام السياسي القائم، وأصبح للأمن اليد العليا في تعيين المعلمين وترقيتهم، وهناك السيد يوسف مجرد مدرس علوم تقليدى ترقى في وظيفته كغيره من المعلمين غير أن مؤهله الأهم أنه كان عديلا للزعيم جمال عبدالناصر، وهناك السيد على عبدالرازق، ومنصور حسين، وعادل عز، ويسرى الجمل، وأحمد زكى بدر، وجميعهم ممن لم يعرف عنهم أي اهتمام وطنى عام، ولا حتى عرف عنهم أنهم امتلكوا رؤية ولو محدودة لتطوير التعليم..
بل إن جهدهم الأكبر كان في تأكيد هيمنة النظام على المدرسة المصرية وتخريج أجيال تصلح للحياة في ظل الفساد والاستبداد والفقر، وربما كان الدكتور محمد حلمى مراد أحد الاستثناءات القليلة في ذلك العهد، تولى وزارة التعليم لمدة سنة واحدة في أعقاب هزيمة يونيو، وفى اجتماع عام طرح الرئيس جمال عبد الناصر رؤيته حول بعض قضايا التعليم..
فوجد حلمى مراد نفسه مضطرا إلى طرح تصوراته التي تختلف عما طرحه عبد الناصر من أفكار، وبمجرد نهاية الاجتماع قال له وزير شئون رئاسة الجمهورية منتهرًا: «لما الرئيس يقول حاجة نقول حاضر يا فندم، وما نقعدش نتفلسف ونعمل أساتذة» فقال حلمى مراد: «نعم، أنا أستاذ قبل الوزارة وسأعود أستاذًا بعدها»، وقدم استقالته فورًا، ونزل من الاجتماع ليجد سيارة الوزارة قد تم سحبها ليعود إلى منزله بالمواصلات العامة" جريدة المصرى اليوم 3 سبتمبر 2011.
الحقيقة أني ومنذ تعيين الدكتور طارق شوقى ولأول مرة أحس أن وزيرا للتعليم لديه أفكار حقيقية للعمل على ملف التعليم لكن علينا أولا أن نحدد أولوياتنا في هذا الملف حتى لا نبنى قصورا من الرمال في الهواء. من وجهة نظرى الشخصية فإن ترتيب الأولويات في إصلاح التعليم كالآتى:
المعلم: اختيار المعلم ثم إعداده ثم تفرغه وحبه لعمله.
المدرسة: تجهيز المدارس بالأبنية ومستلزمات التعليم وكافة الأنشطة بحيث لا تتعدى كثافة الفصل بأى حال من الأحوال في المرحلة النهائية 30 طالبا وهو الحد الأقصى لأى تعليم حقيقى.
طريقة التعليم: تحول العالم كله إلى طريقة البحث منذ أكثر من ثلاثين عاما ولم تعد التلقين المستخدمة في مصر موجودة في الغالبية العظمى من دول العالم والتي تجعل نظام التعليم في المدرسة والجامعة أقرب إلى نظام الكتاب الذي يعتمد على الحفظ والتسميع.
المحتوى: وهو ما كان يطلق عليه قديما المنهج لكن تطور نظم التعليم الحديثة واعتماد طريقة البحث وسهولة الحصول على المعلومات عن طريق الإنترنت جعلت المحتوى مجرد رءوس موضوعات تطرح للبحث والنقاش أكثر منها معلومات بذاتها ونصها.
التقييم: إن اعتماد طرق التقييم الموضوعية التي لا تتأثر برأى واختلاف القائمين عليها وتتطرق لأوسع جزء ممكن من المحتوى وتهدف إلى اكساب المعلومات الأساسية وديمومتها.
الأهداف: وضع أهداف مرحلية موضوعية قابلة للقياس لكل فصل دراسي.
هذه هي الركائز الأساسية لأي تطوير للتعليم والخوف كل الخوف الذي بدأت استشعره هو تفريغ هذه المبادئ من مضمونها وقد انتابني هذا الشعور بسماعى تكرار الزج باسم رئيس الجمهورية في كل عبارة من عبارات طارق شوقى... فلم يعد التعليم هو مشروع الدولة بل هو مشروع الرئيس ولم تعد خطة الدولة بل خطة الرئيس وهو نظام اعتدناه في اختصار الدولة في شخص الحاكم ولو نص الدستور على أنه مؤقت ولو أخبرنا أن الأقدار يمكن أن تغيبه.
وأخشى أن تستمر الأهداف السياسية في التهام أهداف التطوير فيصبح اختيار المعلمين لبدء إعداد الرواد على أساس الولاء التام غير المشروط للفكر السياسي الحالى، كما حدث في البرنامج الرئاسى لإعداد شباب القادة في تكرار لفكر التنظيم الطليعى السابق أو أن تستمر نظرية الحنان الجاف للحكومات المتعاقبة أي مراضاة المعلمين بكلمات عذبة عن أهميتهم وفضلهم دون مردود لذلك على رواتبهم أو الضمان الاجتماعى والصحى ومعاش التقاعد المقدم لهم.
أخشى من الإصرار على التلقين لضمان وصول معلومات بعينها لعقول الشعب ومنع طريقة البحث التي تعلم تقييم الرأى وتمكن من رؤية وجهات النظر المختلفة من الصديق إلى العدو وتبعث حرية الفكر وما قد يشكله ذلك من خطر المطالبة بحياة ديمقراطية حقيقية وتداول للسلطة والفصل بين السلطات ومنع المؤسسات من تعدى دورها الدستورى للهيمنة على المؤسسات الأخرى.
لم تكن مصادفة أن يكون أول ما نزل من القرآن اقرأ حتى لو كان المنزل عليه لا يقرأ.. إنما كانت القاعدة الأولى والدائمة أن القراءة وهى هنا مجاز مرسل عن المعرفة هي سبيل كل شيء ودونها ودون الاهتمام الحقيقى بها نستمر في خسارة كل شيء.
ثم بدأ التاريخ يتغير رويدا رويدا في ما يخص الأعداء الخارجيين خاصة إنجلترا وفرنسا ثم الداخليين خاصة جماعة الإخوان المسلمين. ولم يكن كل هذا ممكنا دون سيطرة السلطة السياسية على التعليم بشكل كامل وأتذكر هنا مقالا للدكتور كمال مغيث كتبه بعد ثورة يناير في جريدة المصري اليوم يقارن فيه بين القائمين على التعليم قبل 1952 وبعدها وأثر ذلك على مستوى التعليم بحثت عن المقال حتى أنقل منه نصا فقال: "فقد تولى وزارة المعارف أواخر القرن التاسع عشر، على مبارك باشا، وهو أحد طلاب البعثات، ومهندس القناطر الخيرية، ورائد تعليم الفتيات، وصاحب العمل الموسوعى «الخطط التوفيقية»، وتولى الوزارة سعد زغلول في العقد الأول من القرن العشرين، وهو بالتأكيد ملهم وراعى ثورة ١٩١٩ والأب الأبرز لليبرالية المصرية ومؤسس حزب الوفد..
كما تولاها أحمد لطفى السيد، أول من ترجم أرسطو، وأول من دعا إلى القومية المصرية والانعتاق من الهيمنة التركية وظلمات خلافتها، وكذلك تولاها محمد حسين هيكل، مؤسس حزب الأحرار الدستوريين وصحيفته «السياسة»، وصاحب الرواية الأولى في مصر «رواية زينب»، التي تناولت أمراض وأوضاع الريف المصرى، وصاحب الدراسات العميقة للتراث الإسلامى، مثل «حياة محمد»، صلى الله عليه وسلم، و«في منزل الوحى»، التي سعى فيها إلى التوفيق بين العقل والنقل، وهناك عبدالرزاق السنهورى، صاحب أكمل مدونة للقانون المدنى المصرى، وأخيرا هناك طه حسين العظيم، صاحب «الشعر الجاهلى»، و«مستقبل الثقافة»، و«المعذبون في الأرض»، و«الفتنة الكبرى» وغيرها.
أما إذا انتقلنا إلى وزراء ما بعد يوليو، فسنجد الصاغ كمال الدين حسين، أحد الضباط الأحرار وحسب، سعى إلى عسكرة المدرسة المصرية، ووضع نظام الفتوة والشرطة العسكرية، وتحويل مناهج التعليم وفلسفته من الثقافة والمدنية إلى الحشد الأيديولوجى خلف النظام السياسي القائم، وأصبح للأمن اليد العليا في تعيين المعلمين وترقيتهم، وهناك السيد يوسف مجرد مدرس علوم تقليدى ترقى في وظيفته كغيره من المعلمين غير أن مؤهله الأهم أنه كان عديلا للزعيم جمال عبدالناصر، وهناك السيد على عبدالرازق، ومنصور حسين، وعادل عز، ويسرى الجمل، وأحمد زكى بدر، وجميعهم ممن لم يعرف عنهم أي اهتمام وطنى عام، ولا حتى عرف عنهم أنهم امتلكوا رؤية ولو محدودة لتطوير التعليم..
بل إن جهدهم الأكبر كان في تأكيد هيمنة النظام على المدرسة المصرية وتخريج أجيال تصلح للحياة في ظل الفساد والاستبداد والفقر، وربما كان الدكتور محمد حلمى مراد أحد الاستثناءات القليلة في ذلك العهد، تولى وزارة التعليم لمدة سنة واحدة في أعقاب هزيمة يونيو، وفى اجتماع عام طرح الرئيس جمال عبد الناصر رؤيته حول بعض قضايا التعليم..
فوجد حلمى مراد نفسه مضطرا إلى طرح تصوراته التي تختلف عما طرحه عبد الناصر من أفكار، وبمجرد نهاية الاجتماع قال له وزير شئون رئاسة الجمهورية منتهرًا: «لما الرئيس يقول حاجة نقول حاضر يا فندم، وما نقعدش نتفلسف ونعمل أساتذة» فقال حلمى مراد: «نعم، أنا أستاذ قبل الوزارة وسأعود أستاذًا بعدها»، وقدم استقالته فورًا، ونزل من الاجتماع ليجد سيارة الوزارة قد تم سحبها ليعود إلى منزله بالمواصلات العامة" جريدة المصرى اليوم 3 سبتمبر 2011.
الحقيقة أني ومنذ تعيين الدكتور طارق شوقى ولأول مرة أحس أن وزيرا للتعليم لديه أفكار حقيقية للعمل على ملف التعليم لكن علينا أولا أن نحدد أولوياتنا في هذا الملف حتى لا نبنى قصورا من الرمال في الهواء. من وجهة نظرى الشخصية فإن ترتيب الأولويات في إصلاح التعليم كالآتى:
المعلم: اختيار المعلم ثم إعداده ثم تفرغه وحبه لعمله.
المدرسة: تجهيز المدارس بالأبنية ومستلزمات التعليم وكافة الأنشطة بحيث لا تتعدى كثافة الفصل بأى حال من الأحوال في المرحلة النهائية 30 طالبا وهو الحد الأقصى لأى تعليم حقيقى.
طريقة التعليم: تحول العالم كله إلى طريقة البحث منذ أكثر من ثلاثين عاما ولم تعد التلقين المستخدمة في مصر موجودة في الغالبية العظمى من دول العالم والتي تجعل نظام التعليم في المدرسة والجامعة أقرب إلى نظام الكتاب الذي يعتمد على الحفظ والتسميع.
المحتوى: وهو ما كان يطلق عليه قديما المنهج لكن تطور نظم التعليم الحديثة واعتماد طريقة البحث وسهولة الحصول على المعلومات عن طريق الإنترنت جعلت المحتوى مجرد رءوس موضوعات تطرح للبحث والنقاش أكثر منها معلومات بذاتها ونصها.
التقييم: إن اعتماد طرق التقييم الموضوعية التي لا تتأثر برأى واختلاف القائمين عليها وتتطرق لأوسع جزء ممكن من المحتوى وتهدف إلى اكساب المعلومات الأساسية وديمومتها.
الأهداف: وضع أهداف مرحلية موضوعية قابلة للقياس لكل فصل دراسي.
هذه هي الركائز الأساسية لأي تطوير للتعليم والخوف كل الخوف الذي بدأت استشعره هو تفريغ هذه المبادئ من مضمونها وقد انتابني هذا الشعور بسماعى تكرار الزج باسم رئيس الجمهورية في كل عبارة من عبارات طارق شوقى... فلم يعد التعليم هو مشروع الدولة بل هو مشروع الرئيس ولم تعد خطة الدولة بل خطة الرئيس وهو نظام اعتدناه في اختصار الدولة في شخص الحاكم ولو نص الدستور على أنه مؤقت ولو أخبرنا أن الأقدار يمكن أن تغيبه.
وأخشى أن تستمر الأهداف السياسية في التهام أهداف التطوير فيصبح اختيار المعلمين لبدء إعداد الرواد على أساس الولاء التام غير المشروط للفكر السياسي الحالى، كما حدث في البرنامج الرئاسى لإعداد شباب القادة في تكرار لفكر التنظيم الطليعى السابق أو أن تستمر نظرية الحنان الجاف للحكومات المتعاقبة أي مراضاة المعلمين بكلمات عذبة عن أهميتهم وفضلهم دون مردود لذلك على رواتبهم أو الضمان الاجتماعى والصحى ومعاش التقاعد المقدم لهم.
أخشى من الإصرار على التلقين لضمان وصول معلومات بعينها لعقول الشعب ومنع طريقة البحث التي تعلم تقييم الرأى وتمكن من رؤية وجهات النظر المختلفة من الصديق إلى العدو وتبعث حرية الفكر وما قد يشكله ذلك من خطر المطالبة بحياة ديمقراطية حقيقية وتداول للسلطة والفصل بين السلطات ومنع المؤسسات من تعدى دورها الدستورى للهيمنة على المؤسسات الأخرى.
لم تكن مصادفة أن يكون أول ما نزل من القرآن اقرأ حتى لو كان المنزل عليه لا يقرأ.. إنما كانت القاعدة الأولى والدائمة أن القراءة وهى هنا مجاز مرسل عن المعرفة هي سبيل كل شيء ودونها ودون الاهتمام الحقيقى بها نستمر في خسارة كل شيء.