رئيس التحرير
عصام كامل

رحلة عم إبراهيم من الخليج إلى باب الشعرية لبيع شرائط الكاسيت «تقرير»

فيتو

ما إن تخرج من مترو باب الشعرية مترجلًا، في شارع الجيش من أول العتبة، يجذب انتباهك وبشدة، منظر غريب من نوعه، إذ يجلس رجل يبدو عليه الهيبة والوقار والطيبة في مزيج دافئ رغم ملابسه البسيطة، ماسكًا بيده مظلة تحميه من حرارة الشمس الحارقة.


وما إن تنظر إلى بضاعته ينتابك شيء من حنين جارف للماضي، وتجد الابتسامة تعلو وجهك ويراودك شعور جارف ألا تُكمل الطريق دونما وقفة مع هذا الرجل أو على الأقل مع بضاعته.





 

شرائط الكاسيت القديمة هي الأصل في تجارة "عم إبراهيم مجاهد هاشم" البالغ من العمر ثمانين عامًا، وعند رؤية تلك الشرائط يأخذك الحنين مما يجعلك تشتري أحدها فتجد مكتوبًا عليه من الخارج "ألبوم حسن الأسمر" والشريط من الداخل مكتوب عليه ألبوم محمد محيي وتزداد الدهشة ما إن بدأ صوت عبد الحليم حافظ يخرج من الكاسيت الذي دار بعد سنوات من توقفه، وعم إبراهيم كما يصف نفسه هو بائع على باب الله، يحبه الجميع ويجدون فيه قلبًا طيبًا وروحًا سمحة.



 

"أنا سافرت بلاد كتير عشان أعلم بناتي وأخليهم كلهم متعلمين علام عالي وهما كمان علموا ولادهم" بكل الفخر حكى "عم إبراهيم" كما يطلق عليه أهالي المنطقة، عن سفره لبلادٍ عدة؛ ليعمل نقاشًا في السعودية والعراق وغيرها من البلاد، ليصرف على تعليم بناته الأربع، ويزوجهن ويوصيهن دومًا أن يعلمن أبناءهن كما علمهن هو.


 

ولمدة 40 عامًا قضاها في هذه المنطقة بعدما جاء إليها من الشرقية كانت سيرته تحمل كل الود والمحبة والتقدير، فبعدما زوج بناته وأصبح كبيرًا في السن، لم يجد معاشًا أو مشروعًا ولم يتحمل سفرًا جديدًا، فقرر منذ أكثر من خمسة عشر عامًا أن يتاجر في شرائط الكاسيت القديمة، وذلك لحبه للأغاني القديمة.

وما إن بدأ يبيع شرائطه القديمة التي يرفض أن يأخذ مالًا غير ثمنها الزهيد ؛ تهافت عليه أهل المنطقة ليتخلصوا من أشيائهم القديمة ليبيعوها له ويبيعها هو لمن يريد أن يشتري هذه الأشياء.



 

"لولا قلة الاعتناء كان زماني بطل العالم في كمال الأجسام" كانت هذه الكلمات تنساب من عم إبراهيم بحنين إلى الماضي وهو يحكى عن بطولاته وأيام عزه في الأندية الصغيرة أيام شبابه الأولى.

وأكد أن الإهمال وحده هو من ضيع فرصته ليكون بطلًا مشهورًا في كمال الأجسام، ولكن هذا الإهمال لم يمس مستقبله الرياضي فحسب، بل أيضًا مسيرته التعليمية، إذ أن عم إبراهيم عند سؤاله عن مستوى تعليمه قال: "والله يا بنتي الكدب خيبة وأنا مش هكدب عليكي، بالأمانة أنا بعرف أفك الخط بس، لكن بناتي كلهم متعلمين علام عالي" فهو كرس حياته وعائد تعبه في السفر ليمنح بناته ما حُرِم هو منه ويحثهن على تعليم أولادهن وأولاد أولاهن كي يعوضنه أمجاده الضائعة بقلة الاعتناء.

"عم إبراهيم" رمز للبساطة والكفاح والمحبة، تجده راضيًا بجنيهاته البسيطة التي يعود بها كل ليلة لزوجته، رافضًا أن يأخذ مالًا غير ثمن سلعته المستهلكة المنقرضة زهيدة الثمن التي قد تكون كنوزًا ثمينة لآخرين.

تجده ضاحكًا داعيًا لجميع من حوله من أهل المنطقة الذين يتبارون لمساعدته بإمداده بأشيائهم التي قرروا أن يتخلوا عنها، ومشجعًا لكل من له حلم أن يثابر ويعافر في تحقيقه، ولا يطلب من الدنيا أكثر مما أخذ منها، إنه فقط يطلب الستر وراحة البال وقوت يومه هو وزوجته العجوز. 


 
الجريدة الرسمية